26 - 10 - 2025

لماذا يوجد حزب ناصري ولا يوجد حزب ساداتي؟

لماذا يوجد حزب ناصري ولا يوجد حزب ساداتي؟

تاريخ مصر الحديث يقف بين رجلين، وجهيْن متناقضين للحكم والسياسة: جمال عبد الناصر، الزعيم الذي خاطب الوجدان، وأنور السادات، القائد الذي تحدّث بلغة الحساب والنتائج، كلاهما ترك بصمةً لا يمكن إنكارها، لكن بين البصمتين مسافة واسعة بين الحلم والواقع.

عبد الناصر في نظر أنصاره كان تجسيدًا للعزة الوطنية والكرامة العربية، صوته في الإذاعة كان يملأ القلوب ثقة، وشعاره "ارفع رأسك يا أخي" تحول إلى عقيدة لجيل كامل خرج من عباءة الاحتلال، تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، ومجانية التعليم؛ جعلت منه بطلاً شعبياً في عيون الملايين، لكن خلف هذه الهالة، يراه كثيرون زعيماً للخطابة لا زعيماً للبناء، سياساته الاقتصادية فشلت في تحقيق تنمية حقيقية، وتحولت مؤسسات الدولة إلى أجهزة بيروقراطية خانقة، الحرية السياسية سُحقت باسم الثورة، والمعتقلات امتلأت بكل صوت مخالف، ثم جاءت النكسة في 1967 لا كهزيمة عسكرية فحسب، بل سقوطاً لأسطورة "القائد الذي لا يُهزم"، صنع حلماً لم يعرف كيف يطبقه على أرض الواقع.

ثم جاء خليفته، أنور السادات، الذي دخل التاريخ من باب الفعل لا القول، امتلك دهاءً سياسياً يُدرس، بدأ حكمه وسط ظلال ثقيلة خرج منها بخطة محكمة وجرأة نادرة، أعاد الأرض التي تقلصت في عهد سلفه، قاد حرب أكتوبر 1973 ليعيد للجيش ثقته وهيبته، أدار مفاوضات السلام بعملية وواقعية ليعيد سيناء، تبعه مبارك ليكمل المشهد بتحرير "طابا"، رغم معارضة عربية خونته وبرّأت الخونة، قاد المرحلة بنضج سياسي، نقل مصر من اقتصاد الشعارات إلى اقتصاد السوق، ظهرت مساوئ الانفتاح وعلت فئة المستفيدين، نشأت فجوة اجتماعية أعادت تشكيل المجتمع وطبقاته، فتح الباب للحريات، لكنه في أواخر حكمه، حين اشتد الخلاف مع المعارضة، لجأ إلى القبضة الأمنية في أحداث سبتمبر 1981، وكأن الدائرة التي كسرها في البداية عادت لتغلق في النهاية.

إذن لماذا يوجد حزب ناصري ولا يوجد حزب ساداتي؟

الحقيقة أن عبد الناصر كان مشروعًا عاطفيًا ضخمًا، رسم صورة مصر المتصدرة للمشهد العربي، لكنه عجز عن تحويل الصورة إلى واقع اقتصادي وسياسي، لذلك لم يرث الناصريون سلطة، بل ورثوا شعورًا بالانتماء إلى فكرة: الكرامة، الاستقلال، العدالة للفقراء، أما السادات، فكان مشروعًا عقلانياً؛ ولأن السياسة في مصر، كما في معظم العالم العربي تُغذّيها العاطفة لم يُخلّف السادات وجدانًا "ساداتيًا"، لأنه لم يعد الناس بالمدينة الفاضلة، بل بالواقع الممكن، فاز بالحرب وأعاد الأرض، لكن الواقع لا يُؤسِّس أحزابًا، الناس تميل لعبد الناصر لأنهم يحبون ما مثّله، يدافعون عن عيوبه، يحبون من قال لهم إنهم كبار، حتى لو لم يجعلهم كذلك، أما السادات، الذي أنجز أكثر على الأرض، ترك قبضة أمنية وخوفاً أدى لقتلة وسط رجاله يوم نصره، ليشمت من شمت ويحزن من حزن، عبد الناصر عاش في وجدان الأمة، والسادات عاش في صفحات التاريخ، الأول ألهب المشاعر، والثاني غيّر المعادلات.

بين الأسطورة والواقع، عبد الناصر صنع أسطورته بوعده بالمستقبل، والسادات عقد صفقته مع الحاضر وصنع النتيجة، من يحب الحلم يبقى مع عبدالناصر، ومن يؤمن بالواقع يقف مع السادات، لكن الحقيقة الأوسع أن مصر تحتاج الاثنين: من يشعل الشعور بالكرامة، ومن يحوّل تلك الكرامة إلى فعلٍ على الأرض، تاريخ الأمم لا يُكتب بالأبيض والأسود، بل بدرجات الرمادي، وعبد الناصر والسادات كانا أطيافًا مختلفة في لوحة واحدة؛ فمصر في كل عصر تحتاج من يحلم .. ومن ينجز.
----------------------------
بقلم: إنچي مطاوع

مقالات اخرى للكاتب

لماذا يوجد حزب ناصري ولا يوجد حزب ساداتي؟