22 - 10 - 2025

حقيقة التصوف.. وبدايته كانت زهدا (2-5)

حقيقة التصوف.. وبدايته كانت زهدا (2-5)

حقيقة لا مراء فيها أنه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ثمة وجود لهذا المصطلح - التصوف - وإلا كان أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن هناك بناية كانت ملحقة بمسجد رسول الله سميت بالصفة، بناها رسول الله لفقراء المهاجرين الذين لا يمتلكون مأوى لهم وكان يعطف عليهم رسول الله.

ذكرهم أبو نعيم الأصفهاني في رائعته حلية الأولياء الجزء الأول صفحة ٣٣٨ قائلا:(هم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شئ من العروض - الدنيا - وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، لا يأوون إلى أهل ولا إلى مال ، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال ، ولا يحزنون على ما فاتهم ولم يفرحوا إلا بما أيدوا به من العقبى)

ومن هنا زعم بعض المستشرقين أن ثم تصوف على عهد رسول الله، لكن الحقيقة أن التصوف ترجع بداياته الأولي مع ظهور حركات الزهد منقطعة النظير والتي أصل لها النبي صلى الله عليه وسلم في غير ذي حديث، فقد عرضت عليه الدنيا ورفضها قائلا أجوع يوما وأشبع يوما وفي كليهما ذكر لله، بل وكان يربط على بطنه حجرا من شدة الجوع ، وعلم أصحابه ذلك فضربوا المثل الأعلى في الزهد، ليس زهدا بمعنى تواكلا وطرح الدنيا بما فيها على ما فيها، وإنما أخذ القليل الذي يتقوى به الجسد والزهد فيما في أيدي الناس ، فالذي يزهد في ما في أيدي الآخرين يكون أغنى الناس ، والذي يزهد فى الدنيا تأتيه راغمة.

قيسوا على ذلك حالنا، الآن تحول الزهد إلى تواكل وتسول وسؤال الناس وترك التكاليف الشرعية وإسقاطها، فهذا ليس زهدا وإنما تواكل وهذا ما نهى النبي عنه.

فالزهد الحقيقي هو عدم التكلف والمغالاة بل التوسط والاعتدال، ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك.

وقوله تعالى، يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا. فلا إفراط ولا تفريط.

هذا ما علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم.

فالاصل في التصوف العبادة والتضرع والتوجه بالكلية إلى الله تعالى والتخلي عن كل الأغيار والاتجاه قلبا وقالبا إلى رب الاغيار.

فلما تفشى الانقطاع إلى الدنيا والركون إليها والانصراف عن الآخرة في القرن الثاني الهجري، قيل للخواص الذين اشتدت عنايتهم بالآخرة وعنايتهم بأمور الدين وانصرافهم عن اللهو والترف واللعب ولم تغرهم زينة الحياة ومفاتنها لذلك سموا بالزهاد والعباد، وهذه البداية الأولى للتصوف.

وكما ذكرنا أن الثقة بالله والتوكل عليه لا يتناقضان مع الأخذ بمبدأ السببية في كل المجالات، فلنأخذ بالاسباب ونتوكل على رب الأسباب.

يقول ذو النون المصري: هؤلاء قوم آثروا الله على كل شيء فآثرهم الله عز وجل على كل شيء.

يقول المستشرق ألفرد فون كريمر، في كتابه تاريخ الأفكار البارزة فى الإسلام عن الزهد، أن الزهد كان يقوم أول الأمر على أساس الخوف من الله تعالى ومن عذاب الآخرة، ورغبة المسلمين في الفرار من الدنيا وزخارفها التي اقبلت عليهم من حيث لا يحتسبون.

وهذا ما حذر من النبي صلى الله عليه وسلم، قائلا إن ما أخشاه عليكم الدنيا تأتي إليكم فتتكالبون عليها وتركضون فيها ركض الوحوش في البرية فتنسيكم أنفسكم، ومن نسي نفسه بالضرورة سينقاد خلفها وخلف أمرها له بالسوء، فتنسيه الله تعالى وتنسيه تكاليفه الشرعية فينفرط عقد الدين حبة حبة، وهو ما هو حادث الآن إلا ما رحم ربي، تكالب على الدنيا، لا مبالاة، لا صلات أرحام، لا صلاة في مواقيتها، شغلتنا الدنيا عن الدين فصرنا نركض فيها ركض الوحوش في البرية، قائدنا مبدأ الأثرة ، نفسي نفسي، وهذا هو الخسران والضلال المبين.

لما توفي النبي صلى الله عليه وامتدت الفتوحات الإسلامية وبدأت الحياة تزدهر، ودبت الخلافات السياسية في الخلافة الإسلامية وراحت تنخر جدرانها كما ينخر السوس الخشب والجدران، وحدث ما يسمى بالانفتاح على حضارات البلاد المفتوحة، كالحضارة الفارسية وحضارة الروم، ودبت الفتنة التي انتهت بقتل الخليفتين عثمان ومن بعده علي، وتوطد الحكم لبني أمية وصراعاتهم مع بني العباس.

شعر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، إنها ستكون فتنا كقطع الليل المظلم، خصوصا مع وجود الثراء الفاحش في بلاط الخلفاء وانتشار المغاني والمراقص وحفلات السامر، ومحاولات بنى أمية وبني العباس استمالة الفقهاء وجعلهم من الموالين محاولين شراءهم بالمال، فانقاد البعض والبعض الآخر رفض بشدة الانصياع إلى فتن الدنيا فاعتزلوا القوم، فمنهم من اعتزل في بيته ومنهم من عكف على تعليم الناس أمور دينهم متخذا البيت الحرام محرابا له ، ومسجد رسول الله مأوى وملاذا آمنا لهم، زاهدين فيما في أيدي الخلفاء والأمراء، فها هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الذي أعلن ثورته على الكنوز وذهب أهل الشام واختلف أشد الاختلاف مع معاوية فأعاده معاوية إلى المدينة وهو يقول، إن بني أمية يهددوني بالفقر والقتل، ولبطن الارض أحب إلي من ظهرها، وللفقر أحب إلي من الغني.

يقول المستشرق نيكلسون، قد انفرد القرن الأول الهجري فى الإسلام بالعوامل الكثيرة التي شجعت على ظهور الزهد وانتشاره، فالحروب الأهلية الطويلة الدامية التي وقعت في عهد الصحابة وبني أمية، والتطرف العنيف في الأحزاب السياسية، وازدياد التراخي والاستهانة في المسائل الخلقية ، وما عاناه المسلمون من تعسف بعض الحكام المستبدين الذين يملون إرادتهم وآراءهم الدينية على غيرهم ممن أخلصوا للإسلام ورفض هؤلاء الحكام علانية كل فكرة تتصل بالخلافة الدينية التي حاول المسلمون إرجاعها.

كل هذه العوامل مجتمعة أثرت في نفوس الناس وحولتهم إلى الزهد في الدنيا وفي متاعها وحولت أنظارهم نحو الآخرة.

ومن هنا ظهرت حركة الزهد قوية عنيفة وانتشرت على مر الأيام فكان زهدا دينيا خالصا في بادئ الأمر ثم دخل إليه تدريجيا بعض العناصر الصوفية.

نعم إن البداية الحقيقية للتصوف كانت زهدا.

وللحديث بقية
---------------------------
بقلم:
د. عادل القليعي
* أستاذ الفلسفة الإسلامية بآداب حلوان.

مقالات اخرى للكاتب

حقيقة التصوف.. وبدايته كانت زهدا (2-5)