لعل سؤالا قد يتبادر إلى ذهن قارئنا الكريم لم كل هذا الزخم وهذا الاهتمام بهذه الشخصية.
اعتقد أنه سؤال مشروع حقا، لكن إجابته تكمن فيما سأتناوله في مقالتي هذه وأتمنى أن تكون إجابة شافية أجيب خلالها على ما يدور بخلد المهتمين بالدراسات الاستشراقية.
أولا: لم إدوارد سعيد
فكثيرون هم من كتبوا عن الإستشراق فنجد مصطفى عبد الرازق كتب عن الإستشراق ورد على فريات بعض المستشرقين متخذا موقفا دفاعيا عن الحضارة العربية والإسلامية ولا سيما الدين الإسلامي ، عندما هاجم أرنست رينان ذو النزعة العنصرية البغيضة في تقسيمه الأجناس إلى آرية أوروبية تتمتع بكل صفات التفتح والتعقل ، وجنس سامي لا يستطيع أن يبحث أو يفكر ويحتاج من ينظر له ويعلمه.
وكذلك الأمر بالنسبة لعبد الحليم محمود عندما تصدي لفرية أن الإسلام يقف حجر عثرة في طريق التقدم العلمي والتقني وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الإسلام دعوة للتنوير والمعاصرة.
وزكي نجيب محمود الذي رفض فكرة حصر الأنسنة في جنس واحد ، وأن الحضارات لا يمكن أن تكون إلا من خلال المزج بين الشعوب، فلا شرق ولا غرب وإنما هو الإنسان رافضا فكرة صراع الحضارات مستبدلا إياها بحوار الحضارات.
وأحمد الطيب الذي وقع على بنود وثيقة عالمية مع بابا الفاتيكان البابا فرانسيس موثقا بنودها بما يضمن سماحة الأديان طارحين النزعات العنصرية والطائفية.
كل أولئك كانت لهم منطلقاتهم الدفاعية ولا أحد منصف يلومهم على ذلك، أما الملامة فتتمثل في أخذهم الجوانب السلبية المظلمة وبنوا عليها جل دفاعاتهم، إلا أن ثمة جوانب مشرقة للاستشراق تناولها إدوارد سعيد، وهذا ما ميزه عن الجميع متخذا موقفا مغايرا لهؤلاء جميعا.
موقفا بناه على الموضوعية طارحا الناحية الذاتية المتمثلة في التعصب لدين معين أو معتقد معين وإنما ناقش هؤلاء في عقر ديارهم في كل قضايا المتعلقة بالفكر الشرقي ومنه الحضارة العربية والإسلامية.
بل بلغت دقة موضوعيته أن استمع إلى الرأي الآخر مفندا حججه داحضا إياها مقدما الرأي الآخر الذي ارتكز فيه على منهجيته في الطرح والمعالجة.
فما أحوجنا إلى مثل هذه الموضوعية في مناقشاتنا على كآفة المستويات الثقافية والعلمية والسياسية والدينية، فما أقامت العصبية فكرة بل العكس هو الصحيح قد تنسف الفكرة من أساسها وتحول النقاش إلى جدال عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع.
ثانيا: من هو إدوارد سعيد؟!
هو إدوارد وديع سعيد، ولد في القدس في الأول من نوفمبر عام ألف وتسعمائة وخمس وثلاثون، وتوفي في الخامس والعشرين من سبتمبر عام ألفان وثلاثة في مدينة نيويورك، ودفن في لبنان.
منظر وأديب وسياسي فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية.
ولد في حي الطالبية بالقدس الشريف.
تلقى تعليمه في القاهرة، حصل على الدكتوراة في الأدب الإنجليزي من جامعة هارفارد، عمل كأستاذ جامعي في جامعة كولومبيا.
نشاطه الثقافي: ساهم في عدد كبير من اختصاصات العلوم الاجتماعية منها التاريخ، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الدراسات الإقليمية ولا سيما دراسة منطقة الشرق الأوسط.
تفاعل سعيد مع القضية الفلسطينية من خلال عدة طرق، التضامن، لكنه وجد أن التضامن وحده لا يكفي، فاتجه إلى التمثيل، تمثيل القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، ثم الدعوة إلى دحر الاحتلال والاعتراف التام بحقوق الشعب الفلسطيني، ثم النقد، نقد موقف المتخاذلين عن نصرة القضية الفلسطينية.
حصل على العديد من الجوائز أهمها جائزة الأمير سلطان العويس في الأدب.
له العديد من المؤلفات أهمها، الاستشراق ، العربي في الثقافة الأمريكية، سلام بلا أرض، خارج المكان، الثقافة والامبيريالية، تأملات حول المنفى، مقالات وحوارات.
توفي في أمريكا ودفن في بيروت
ثالثا: مفهوم الإستشراق
الإستشراق يختلف عن الاستغراب اختلافا زمكانيا، وإنما يتفقان فى التوجه، هذا التوجه بغيته الإستفادة بالنسبة للمستشرق بعلوم الشرق ونقلها عن طريق خبراته إلى موطنه، كذلك الأمر بالنسبة للمستغرب، الإستفادة من علوم الغرب، أخذ ما هو صالح ويتواءم مع شرقيتنا وطرح ما هو طالح لا يتناسب مع عاداتنا وأخلاقنا وقيمنا.
الإستشراق علم يحمل دلالاتين، الأولى، الدلالة اللغوية والتي تعتمد على فقه اللغة، بمعني الكشف المعجمي عن دلالة هذا المصطلح، فأشرقت الشمس مشرقا أو أشرقت الشمس شروقا، فالاستشراق يعني علم دراسة الشرق، وهذا بدوره يقودنا إلى الدلالة الثانية، ألا وهي الدلالة الاصطلاحية، فالاستشراق علم له دواقع وأهداف ومنهجية وقضايا، وجل موضوعاته تدور حول دراسة الشرق في آدابه ولغاته وحضاراته ومختلف ثقافاته وفنونه من أجل الإستفادة منها.
وقد تعددت التعريفات وتنوعت مبانيها لكن جميعها اتفقت على أمر واحد أن الاستشراق علم يهتم بدراسة الشرق سواء من تعريفات المستشرقين أنفسهم أو من خلال تعريفات الباحثين العرب والمسلمين.
رابعا: دلالات الاستشراق المعرفية عند إدوارد سعيد
قدم سعيد تعريفا للاستشراق يعد من التعريفات المهمة لما يحمله من رؤية جديدة بلور خلالها فكره عن الاستشراق.
الإستشراق علم يحمل ثلاثة دلالات
أولتها، الدلالة الأكاديمية، يري سعيد أن الاستشراق أصبح علما له تعريفاته ودوافعه وأهدافه ومنهجيته وقضاياه، ومن باتت دراسته أمر محتوم فى المعاهد والجامعات والمؤسسات البحثية، بل وأصبح مقررا يدرسه الطلاب في الجامعات، وتقام حول أفكاره وقضاياه المؤاتمرات والندوات سواء في المحافل العلمية والثقافية العالمية أو المحلية أو الإقليمية.
ثانيتها، الدلالة التاريخية، وهي التي تمثل تأريخا لنشأة هذا العلم، فإدوارد سعيد يؤرخ لنشأته فى أوائل القرن التاسع عشر وأواخر الثامن عشر، إلا أننا تختلف معه، فالإستشراق ترجع نشأته إلى ما قبل الميلاد، وشواهدي على ذلك كثيرة، أهمها زيارات سقراط، وأفلاطون، وفيثاغورث، وصولون لمصر قبل الميلاد، لكن ربما يكون مقصد سعيد أن الإستشراق أصبح علما، فإذا كان ذلك كذلك فلا مندوحة من قبول رأيه.
ثالثتها، الدلالة الإبستمولوجية المعرفية، وفيها حاول إدوارد سعيد عقد مقارنات بين الحضارات الشرقية والحضارة الغربية، مقارنا بين ما أسماه التمدن الشرقي، والتمدن الغربي، وهل حقا قامت المدنية الحديثة والنهضة في أوروبا على ما تعلموه من حضارات الشرق القديم.
وختاما فإن إدوارد سعيد مفكر من طراز فريد، وظاهرة فكرية يندر أن تتكرر إلا كل حين وحين، لكن ينبغي أن يعلم الجميع أن حضارتنا العربية والإسلامية، حضارة ولادة، فكما أنجبت سعيد، تنجنب غيره مئات بل و آلاف، فرحمها معينه خصب لا ينضب أبدا.
-----------------------------
بقلم: د. عادل القليعي
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان