19 - 10 - 2025

رشقة أفكار | التربص العقابي!

رشقة أفكار | التربص العقابي!

الصحفيون مكروهون .. كل المؤشرات تؤكد ذلك!

الصحافة ليست جريمة ، هذا صحيح تماما.. لكن الدولة وحدها  لا تؤمن بذلك !

الصحفيون يسألون ويناقشون .. في دولة ترفض الإجابة وتكتفي بجملة شهيرة " أكتب مايملى عليك"!

ماهي هذه الدولة التي تنشد التقدم وهي ترفض الصحافة والصحفيين ؟!

بعد القبض على زميلتنا صفاء الكوربيجي وكانت عائدة من الحبس الذي طال حتي استطال قبل فترة قليلة (يافرحة ماتمت) فوجئنا بليل غاشم اسود حزين باستدعاء والتحقيق مع  زميل لنا يعمل محررًا في جريدة الأخبار المسائي، يتابع أخبار وزارة السياحة والآثار.. وتردد اسمه مؤخرًا بكثرة ، لكشفه عن فضيحة سرقة الإسورة الذهبية من المتحف المصري.. التى هزت الدنيا ، وفيما يبدو لم تشغل كثيرًا وزارة السياحة، بقدر انزعاجها من التغطية الصحفية التي فتحت "بطن" الوزارة  على مصراعيه، وبدلا من أن ترتق ثقوبا تملأ  ثيابها وإجراءاتها، تفننت في إصدار بيانات عبثية في محاولة لإزالة آثار الكارثة !

قامت الدنيا ولم تقعد في مصر، بعد التأكد من " تسييح الأدلة مع الإسورة "، ومع هذا  فإن الوزارة عملت "ودن من طين وأخرى من عجين" تارة ،وتارة أخرى عملت من بنها، بل وأقامت فيها كليًا.. ربما وفقًا لقاعدة الأساور كتير وخير ربنا كتير، ولازم نكفي عالخبر ماجور! ليت الأمر بقى عند هذا الحد، فبعد مرور أسابيع على الواقعة، تم التربص بليل أسود تربصًا عقابيًا بهذا الصحفي الذي نشر الواقعة المؤسفة، وجعل الوزارة بل والحكومة كلها حديث الناس، ومحط السخرية ، لذلك يجب أن يلقى جزاءه المناسب، لتجرؤه على وضع شعار "الصحافة مش جريمة" موضع التنفيذ.

طبقًا لبيان نقيب الصحفيين خالد البلشي المنشور في الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، فإن محمد طاهر تم استدعاؤه لمباحث الإنترنت عصر أمس السبت ١٨ اكتوبر، بدعوى الدردشة والاستعلام عن بعض التفاصيل، ليفاجأ بوجود بلاغ من معاون وزير السياحة والآثار، وليس من الوزير نفسه، ويتم استجوابه دون إخطار النقابه (سبق التحذير من النقيب ومن الجماعة الصحفية ومن الحقوقيين ونقابة المحامين بأن منح  النيابة  الحق في اجراء تحقيق مع المتهمين في غياب محاميهم يهدر العدالة) ماحدث مع محمد طاهر نموذج  صارخ لهذا الأمر، لولا تدارك النقابة للأمر، وإيفاد الزميلين رئيس لجنة الحريات إيمان عوف ووكيل النقابة للرعاية الاجتماعية محمد الجارحي إلى قسم الشرطة بالعبور للمساندة والدعم والحفاظ على حقوق الزميل في تحقيق العدالة!

محاولة وزارة السياحة أمس التحقيق مع صحفي في غيبة محاميه، ومن دون إخطار النقابة، التي تمتعت دوما بحق عدم جواز التحقيق مع منتسبيها في غيبة ممثل من نقابة الصحفيين، لم تفلح لأن النقابة - رغم سواد الليل -  وانتصاف ليل القاهرة الطويل أمس، لم تتوان في بذل كل الجهود ، بما في ذلك  تواصل النقيب مع وزير السياحة شريف فتحي!

خالد البلشي نقيب الصحفيين قال في بيانه أن طاهر تم استجوابه في غيبة محاميه ودون إخطار النقابة، وهنا نتساءل بحق : هل يعني هذا أن هذه الميزة - التي تكفل للصحفي  حقًا أصيلًا أمام جهات التحقيق تم الحرص عليه لعقود طويلة - لم تعد قائمة، وأن على كل منا أن يلقى مصيره وهو وحظه، فإذا لم يتمكن من اخطار النقابة فسيحقق معه من دون وجود محاميه أو ممثل النقابة، وإذا كان محظوظا فسيجد إيمان عوف ومحمد الجارحي وخلفهما النقيب يحاولون ويوضحون ويكتبون ويسعون لإطلاق الصحفي من حبسه المزمع إصدار قرار به؟!

أم المفارقات في بيان نقيب الصحفيين عند منتصف ليلنا الحالك السواد أمس - رغم كل الأنوار الساطعة في الكافيهات والبارات ومحال السوبيا وبيع الدجاج الشهي والكباب المفتخر ، ورغم الضحكات المتألمة - كثير منها في الحقيقة - في روف - أو أرواف إن  صح الجمع - "هابي تون" و"هابي سيتي" وأوديون"  و"حديقة  الجريون" وغيرها من الأرواف - أن محمد طاهر تم تفتيش هاتفه المحمول الخاص دون إذن قانوني وإحالته بعدها للنيابة متحفظًا عليه بصحبة أمين شرطة داخل سيارة ميكروباص وكأننا أمام كمين تم إعداده سلفًا للزميل في سلسلة من الإجراءات التعسفية غير المبررة ومخالفة صريحة لقانون النقابة الذي يلزم بإخطار النقابة قبل التحقيق والاستدعاء!

اعتبر نقيب الصحفيين بيانه بمثابة بلاغ لوزير الداخلية للتحقيق فيما جري مع محمد طاهر، وغدا (اليوم) ستتقدم النقابة ببلاغ رسمي في كل ماتم معه، والذي يكشف انحيازًا واضحا - كما ورد في بيان النقيب - في الإجراءات لمجرد أن مقدم البلاغ معاون وزير!

جانب آخر من المفارقة المدهشة أن وزير السياحة والآثار أكد  في اتصال هاتفي له مع نقيب الصحفيين "أنه لم يتقدم بالبلاغ وأنه سيتقدم بشكوى للنقابة غدا (اليوم الأحد) ضد من زج بإسمه في البلاغ، وأنه ليس مسؤولا عن الطريقة التي تم التعامل بها مع الزميل"!

وجود هذا الدعم والمساندة الفورية من النقيب وإيمان عوف والجارحي - اللذان توجها فورا إلى قسم ثان العبور للمساندة والسعي لإطلاق سراحه ودفع ٢٠٠٠ قيمة الكفالة التي قررتها النيابة لإخلاء سبيله ، يعني أن هذه النقابة - رغم ملاحظات مختلفة هنا وهناك - ما زالت عفية ، ويسمع لها صوت ، ولكن يتعين بذل المزيد، فهذا الوزير يجب ان يعرف كيف تجاوزه معاونه هذا ، ولماذا تجاوز وزيره وتقدم ببلاغه كما يقول الوزير شريف فتحي؟ وكيف يجرؤ مجرد معاون للوزير على مثل هذه الفعله؟ وهل سبق له أن فعلها؟ وماهي عقوبته إن ثبت أنه تجاوز الوزير؟!

ويجب أن يصعد الأمر إلى المجلس الأعلى للإعلام: كيف تهدر جهات التحقيق حقوقًا راسخة للصحفيين، تضمن لهم عدم ملاحقتهم كما الأشخاص المتهمين فعلًا، لأنهم يمثلون أمام التحقيق بحكم عملهم وبحكم ما ينشرونه، والأصل أن الصحافة مهمتها كشف الحقيقة من أجل سلامة المجتمع وملاحقة الفساد والمفسدين ! (هل تؤمن الدولة بذلك فعلًا)؟!

لا أعرف كيف لا يتدخل رئيس المجلس الأعلى للإعلام وقد ترأس مؤخرًا هيئة تطوير الإعلام، من اجل  تذويب الفجوات بين الدولة والصحافة، وكأن أجلى نموذج لها هو ماحدث في موضوع بدل التكنولوجيا الذي عوقب الصحفيون بتقليصه إلى نصف ماكان مقررًا أثناء إعداد الميزانية وفي فترة الإنتخابات، ويأتي هذا التربص العقابي الجديد، فنجد أن صحفيًا يكشف واقعة فساد يحقق معه بليل، وتعتقل قبله الصحفية صفاء الكوربيجي وكأن اعتقالها أمرًا بات معتادًا، فيما يظل  اعتقال ٢٥ صحفيًا آخرين تطلب النقابة إطلاق سراحهم دون أن يهتم أحد، جرحًا غائرًا مستمرًا!

أهمس هنا في آذن السيدين خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام وعبد الصادق الشوربجي رئس الهيئة الوطنية للصحافة ببذل جهود كبري لتصحيح هذه العلاقة المختلة بين الدولة والصحافة والتأكيد على أن الصحافة مش جريمة وأنهما - وأعضاء المجلس والهيئة كافة - يدركون أهمية الصحافة وأهمية تحسين  أوضاع الصحفيين، لقد هرمنا بمعاشاتنا الهزيلة (٢٠٠٠ج وبدل التكنولوجيا المتواضع !!) مع أن الصحفيين  لايقل دورهم  أهمية عن دور أي مقاتل يساهم في حماية هذا البلد!!
أخليَّ سبيل الزميل محمد طاهر بكفالة ٢٠٠٠ جنيه.. لماذا؟! ماهي جريمته؟ وهل كشفه عن واقعة سرقة الأسورة الأثرية يضعه تحت طائلة الاتهامات؟ وماهي هذه الاتهامات الموجهة إليه؟ ما القضية التي سيمثل بموجبها أمام القضاء؟ وهل ستكرر مباحث الإنترنت التي نهتم جميعا باللجوء اليها بحثا عن حقوقنا في حال حدوث انتهاكات وجرائم إليكترونية، ما تم عمله مع زميلنا، الذي استدعي للدردشة والاستعلام فوجد نفسه في قفص الاتهام؟ ما الذي يتعين علينا فعله، هل نحمل - من باب الخداع -  جهازي تليفون أحدهما فارغ مثلا، بحيث لا يتم تحريز تليفونه والعبث به من دون سند قانوني؟ هل ينبغي للصحفي أن يترك جدولا بمواعيد وأماكن تواجده لدي أسرته وجريدته ونقابته، بحيث إذا تخلف عن موعده يتحرك الجميع لانقاذه؟!
لماذا مثل هذه الإجراءات التي تهدر كرامة الصحفيين؟ هل كراهية الدولة لمن يسألون ويكتبون ويناقشون تستدعى كل هذا الاستنفار؟ فلماذا إذن تدعون لتطوير الإعلام والصحافة وأنتم تطعنون المهنة وأبناءها في مقتل.. مع سبق التربص والإصرار؟!
-----------------------------------
بقلم: محمود الشربيني


مقالات اخرى للكاتب

رشقة أفكار | التربص العقابي!