لقد جاء اتفاق شرم الشيخ لإيقاف إطلاق النار في غزة بعد مرور ما يربو على السنتين من التدمير الشامل والقتل الممنهج لأبناء الشعب الفلسطيني. كما أنه جاء بعد وقت طويل للغاية من المناشدات والاحتجاجات الشعبية والرسمية على الصعيدين العربي، والدولي، ضد هذه الممارسات. كما أنه جاء بعد مرور وقت ليس بالقليل على انطلاق الادانات الشعبية والرسمية، على الصعيد الدولي، لتلك الممارسات الهمجية، سواء من قبل النقابات أو الأحزاب أو الدول، أو من قبل المحكمة الجنائية الدولية ومنظمات الأمم المتحدة. وحتى الجمعية العامة ومجلس الأمن التابعين لها، لولا الفيتو الأمريكي المشرع على الدوام لمصلحة اسرائيل. وعلى الرغم من كل ذلك فلم يطرف للإسرائيليين جفن ولم تهتز لهم قناة، بل واصلت إسرائيل نهجها الإجرامي الذي أصبح ملء أسماع وأبصار العالم من أقصاه الى أقصاه. فما الذي استجد لكي تتحرك الولايات المتحدة، على هذا النحو المتعجل وتوقف القتال؟؟ ولماذا رضخت إسرائيل بهذه السهولة والبساطة، لكي يتم تنفيذ هذا الاتفاق خلال ساعات من توقيعه؟؟ على الأقل في بنوده الأولى المتمثلة في وقف القصف والانسحاب الإسرائيلي الجزئي وإدخال المساعدات والإفراج عن دفعات من الأسرى.
وللاجابة على هذا فلا بد من رصد الحقائق التالية:
- أن إيقاف القتال ووقف شلال الدماء المنهمر في غزة بات يمثل مطلبا إنسانيا شاملا ووضعا ضميريا وأخلاقيا ضاغطا على كل متخذي القرار في العالم.
- أن الحرب قد طالت، على خلاف مع ما هو مخطط لها، إلى ما يربو على العامين دون أن تحقق القوات الصهيونية، بخلاف القتل والتدمير غير المسبوقين، أية نتائج حاسمة على الأرض، فلم يتم تحرير الأسرى المحتجزين لدى فصائل المقاومة. كما لم يتم القضاء على قدرة المقاومة على مواصلة القتال، أو فرض الاستسلام عليها. وهذان هما الهدفان اللذان أعلنتهما الإدارة الصهيونية في بداية الحرب.
- لقد أدى هذا الفشل إلى اجهاض الهدف الحقيقي، وهو الأهم والأخطر لدى الصهاينة، وهو المتمثل في القضاء النهائي على القضية الفلسطينية ومشروع دولتها المستقلة. وذلك عن طريق تهجير سكان القطاع، تمهيدا لتهجير باقي السكان الفلسطينيين من مناطق فلسطين التاريخية. بل لقد على العكس من ذلك، حدث ما لم يكن متوقعا، حيث استعادت القضية الفلسطينية زخمها وألقها الدوليين، وأصبحت أقوى حضورا في الأجندة الدولية بعد أن كانت قد طواها النسيان.
- تضرر مصر والأردن من استمرار الحرب وتطوراتها، نظرا لما يحدثه ذلك من ضغط شعبي عليهما، بالإضافة الى هاجس التهجير الذي تعمل على تنفيذه القوات الصهيونية، اعتبرته الدولتان بمثابة تهديد للأمن القومي لكليهما. فضلا عما تحدثه حالة الحرب من اضطراب وتداعيات سلبية على الصعيد الاقتصادي (تضرر الملاحة في قناة السويس والسياحة في الأردن) وتهديد للاستقرار السياسي والعسكري في المنطقة. ولذلك كان للموقف الرسمي المصري، بصفة خاصة، (وهي الدولة الأكبر والأقوى والأكثر تأثيرا) دور كبير في إجهاض هدف التهجير، أو على الأقل إبعاده الى حين، حيث أعلنت القيادة المصرية بوضوح لا يقبل اللبس، بأن "تهجير الفلسطينيين بالنسبة لنا خط أحمر". وهو ما يعني أن بقاء الغزاويين على أرضهم، بعد كل هذا القتل والدمار، يعد انتصارا للإرادة المصرية بقدر ما هو انتصار لقضية الشعب الفلسطيني.
- لقد كان تحقيق هدف التهجير وتفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها بمثابة مقدمة ضرورية لمشروعات استراتيجية أخرى أكبر، تمت الإشارة اليها من قبل قادة العدو، مثل: تحقيق واقع "يهودية الدولة"، والتمهيد الى إقامة "إسرائيل الكبرى"، وغير ذلك من الهلاوس التوراتية. التي أعلن رئيس وزراء العدو "ارتباطه الروحي بها". فضلا عن أهداف أخرى لم يتم الإعلان عنها بصورة كافية، مثل ضم أراض من كل من سوريا ولبنان، وإقامة ممر داوود عبر الجنوب السوري للتواصل الجغرافي مع شرق الفرات، حيث مناطق السيطرة الكردية. فضلا عن العمل على اتاحة الظروف التي تسمح بشق "قناة بن جوريون"، التي يزمع أن تحل محل قناة السويس. ولعل هذه الأهداف هي ما يمثل جوهر ما أعلنه رئيس وزراء العدو بنيامين نتانياهو من أنه "سيغير وجه الشرق الأوسط"، في إطار ما أعلن عنه من ما يسمى "مشروع الشرق الأوسط الجديد".
ومن هنا يعتبر إيقاف اطلاق النار في غزة بمثابة قرار بتأجيل تحقيق هذه الأهداف، وهزيمة مؤقتة لتلك المخططات.
كما أن استمرار الحرب طوال هذه المدة، وتراكم الجرائم الوحشية التي ارتكبها جنود الكيان في حق المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ وقصف المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد وخيام النازحين.. الخ، وعلى نحو غير مسبوق في التاريخ الحديث، جعل الرأي العام العالمي ينقلب على الكيان الصهيوني ويكتشف حقيقة أهدافه، التي تتجاوز ما أعلن عنه من محاربة الإرهاب أو تحرير الأسرى. فلقد أصبح واضحا أن الهدف الحقيقي هو إبادة الشعب الفلسطيني وقتل أكبر عدد ممكن من أبنائه والقضاء على حلمه في إقامة دولته. ولقد أدى ذلك الى تصعيد المظاهرات وتأجيج مشاعر الغضب لدى معظم شعوب العالم. وهو ما حدا بالعديد من الدول الغربية الرئيسية (إنجلترا - فرنسا - اسبانيا) وغيرها في باقي أرجاء العالم، إلى إعلان اعترافها بالدولة الفلسطينية المستقلة. وهو ما أحرج الموقف الصهيوني والقوى الداعمة له وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وجعلها تشعر بأن تداعيات الحرب تتطور إلى مسارات لا تخدم مصالحها، والتي تتمحور حول خدمة وترسيخ وجود الكيان الصهيوني، بوصفه القوة المهيمنة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.
بالاضافة إلى أن استمرار الحرب كان يهدد بخسارة أمريكا لأهم حلفائها في المنطقة، وأقصد بهم مصر والأردن وتركيا، وبعض الدول الخليجية التي شعرت بأن أمريكا بموقفها الداعم بدون قيد أو شرط للكيان الصهيوني، لا يمكن التعويل عليها في حماية أمنها ومصالحها الاستراتيجية التي بات يهددها التغول الصهيوني. خاصة بعد الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية الذي تمت الإشارة اليه آنفا.
وفضلا عن كل ما سبق، فان إيقاف هذه الحرب يصب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، من ناحية أخرى، نظرا لاشتباكها في جبهات ساخنة أخرى في العالم، مثل جبهتي: فنزويلا، وايران. فضلا عن الحرب الأوكرانية مع روسيا، والحرب التجارية والاقتصادية مع الصين.
من هنا يمكن القول أن ما حدث من اتفاقات في شرم الشيخ، الى جانب أهميته الإنسانية الكبيرة في إيقاف الفاجعة الإنسانية الرهيبة في غزة، من وجهة النظر العربية والفلسطينية، فانه من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية ليس أكثر من محاولة لايجاد مخرج للعدو الصهيوني من الحرب التي وصل فيها الى طريق مسدود. كما أنه يعد محاولة لإنقاذ سمعته على الصعيد العالمي، وإبقاف تآكلها، الذي بلغ درجاته القصوى.
وإلى جانب ذلك فان هذا الاتفاق يأتي بمثابة محاولة لكي تستعيد الولايات المتحدة مركزها المهيمن على بلدان منطقة الشرق الأوسط، واللحاق بمحاولات هذه البلدان للبحث عن حلفاء آخرين، (مثل باكستان والصين وروسيا وكوريا الشمالية)، خاصة بعد ظهور خواء وزيف فكرة الاعتماد على التحالف مع أمريكا، بوصفها قوة حماية.
ولذلك فلقد حاول ترامب الظهور بمظهر الآمر الناهي فيما يتعلق بشئون المنطقة، حربا وسلما. ولقد نجح في ذلك، إلى حد كبير، من خلال تصدره المسرحي لمؤتمر شرم الشيخ، دون أن يتراجع على أي نحو عن تصريحاته السابقة حول "ضرورة توسيع الخريطة الإسرائيلية"، والاعتراف بضمها للجولان وما يشبههما من تصريحات تقوم على الانحياز المطلق لدولة الكيان. بل إنه فاخر بتقديم كل ألوان الدعم الممكن تصورها لها.
وعلى هذا فإن ما حدث حتى الآن لا يعد تحولا في الموقف الأمريكي الإسرائيلي، أو ناتجا عن أسباب تتعلق بإرادة طرأت لديهما نحو انتهاج طريق السلام، بل إنه في الجوهر لا يخرج عن محاولة ترميم هذا الموقف الدائم الثابت والمعروف، ذاته، ألا وهو استمرار الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة. كما أن ما حدث لا يعد ايقافا للحرب، بالمعنى الكامل، بل انه مجرد هدنة مؤقتة، تتفادى بها الولايات المتحدة وحلفاؤها المزيد من الاحراج، والمزيد من تدحرج الأوضاع الى مسارات لم تكن في حسبانها. ورغبة في أن تتفرغ في الآن نفسه الى قضايا أكثر الحاحا بالنسبة لها.
كما أن رضوخ العدو الصهيوني لجهود ايقاف اطلاق النار عبر الحليف الأمريكي، ما كان له أن يتم إذا كانت أهدافه من الحرب تمضي نحو النجاح. بل إنه يعد، بكل تأكيد، نتيجة مباشرة لصمود المقاومة والشعب الفلسطيني، وعجز العدو الفاضح في القضاء عليهما. كما أنه بلا أدنى شك، قد جاء نتيجة لقوة الإرادة السياسية المصرية وموقفها الصارم ضد مسعى التهجير ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية. وغني عن القول أن هذا يعني، من جهة أخرى، أن العدو لن يتوقف عن مساعيه الرامية الى تدمير الوجود العربي في فلسطين وخارجها. كما أنه لن يتوقف عن محاولاته في ضم كل ما يمكنه من أراض في دول الجوار، كلما سنحت الظروف.
-----------------------------
بقلم: د. صلاح السروي