القانون في أي دولة هو ميزان العدل وضمير الأمة، وبه تُقاس قيمة الدولة ومصداقيتها أمام شعبها والعالم. فحين تُسنّ القوانين لخدمة الصالح العام تزدهر العدالة وتستقر المجتمعات، أمّا حين يتحوّل التشريع إلى أداة لخدمة نزوات أو مصالح ضيّقة، فإنّ روح العدالة تُختطف، ويتحوّل القانون إلى سلاحٍ في يد من يملك السلطة والنفوذ.
لقد شهدت مصر عبر العقود الماضية نماذج مؤلمة من تشريعات أُديرت بغير حكمة، أو رُسمت لتلبية مصالح خاصة. ومن أبرز تلك النماذج ما حدث في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة حين صدر قانون الخُلع، الذي منح المرأة حقَّ إنهاء الزواج بإرادتها المنفردة مقابل التنازل عن حقوقها المالية.
ورغم أنّ الهدف المُعلَن من القانون كان إنصاف المرأة التي تعاني من زواجٍ لا يمكن استمراره، فإنّ طريقة إقراره وغياب النقاش المجتمعي حوله أثارا جدلًا واسعًا، خصوصًا مع ما أُشيع آنذاك من أنّ القانون خرج استجابةً لواقعة شخصية تخصّ إحدى السيدات ذوات النفوذ السياسي، ما جعل البعض يراه «قانونًا مُفصّلًا على المقاس».
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تبعته تعديلات في قوانين الحضانة والرؤية جعلت الحضانة للأم تلقائيًا حتى سنٍّ متقدمة، وجردت الأب من دوره الطبيعي في تربية أبنائه. وكانت النتيجة تفككًا أسريًا متزايدًا وصراعاتٍ قضائية لا تنتهي، تحوّلت فيها ساحات المحاكم إلى ميادين نزاعٍ مفتوحة، بينما كان الأطفال هم الضحايا الحقيقيين.
ورغم مرور أكثر من عقدين، فإن تلك التشريعات لم تُراجع مراجعةً جذرية، بل ظلت تُدار بمنطق المسكّنات المؤقتة، دون مواجهةٍ شجاعة لجذور الخلل. وكأنّ المشرّع سنّ القانون ومضى، تاركًا المجتمع يواجه آثاره الاجتماعية والإنسانية المعقّدة.
وإذا انتقلنا إلى مشهد التشريع في الفترة الأخيرة، نجد مثالًا آخر في التعديلات الأخيرة على قانون الإجراءات الجنائية التي أقرّها البرلمان مؤخرًا.
هذه التعديلات – رغم أهميتها في تسريع وتيرة التقاضي وتخفيف العبء عن المحاكم – أثارت أيضًا نقاشًا واسعًا حول بعض المواد التي تمنح سلطاتٍ أوسع للنيابة في الحبس الاحتياطي، دون ضوابط واضحة تكفل التوازن بين حق الدولة في الأمن وحق المواطن في الحرية، بالإضافة إلى حضور المتهم أمام النيابة العامة من دون محامٍ!
وهنا يتجلّى السؤال ذاته: هل الهدف من التشريع هو تحقيق العدالة الناجزة، أم تمكين السلطة من أدوات إضافية للسيطرة؟
إنّ العدالة الحقيقية لا تتحقّق إلا بتشريعاتٍ متوازنةٍ تنبع من دراساتٍ مجتمعيةٍ ومناقشاتٍ علنية، لا من مصالح ضيّقة أو توجيهاتٍ فوقية. فحين يُدار التشريع بالهوى يتحوّل إلى سلاحٍ يهدم الثقة بين المواطن والدولة، وحين تُدار العدالة بالسلطة تُفقد قدسيتها ومعناها.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في منظومة القوانين المصرية، وخاصة قوانين الأحوال الشخصية والإجراءات الجنائية، برؤيةٍ أكثر توازنًا وعدلًا، تُعيد للأسرة استقرارها، وللدولة هيبتها، وللقانون مكانته المقدّسة كرمزٍ للإنصاف لا للنفوذ.
------------------------
بقلم: إبراهيم خالد