17 - 10 - 2025

الإله الذي اختطفه الملوك: ديكتاتورية وحي

الإله الذي اختطفه الملوك: ديكتاتورية وحي

على خشبة المسرح العظيم للسياسة والسلطة، تتصارع مفاهيم الشرعية وتتجادل بين الحق الإلهي والإرادة الشعبية. وتقف فكرة "الوحي الإلهي" كأحد أكثر الأسس إثارة للجدل في بناء شرعية الحكم، إنها لحظة مفصلية في تاريخ المجتمعات، عندما ينتقل الحاكم من دائرة المحاسبة البشرية إلى فضاء الادعاء بالمصادقة السماوية، في رحلة تمتزج فيها الميتافيزيقا بالسلطة، والمقدس بالدنيوي. وبقراءة متأملة لرقصة الشرعية الثلاثية بعين الفيلسوف ماكس فيبر (Max Weber) في تصنيف الشرعية، لا نجد مجرد تقسيم أكاديمي، بل نكتشف ثلاثة عوالم متوازية تتعايش في كينونة الدولة.

فالشرعية التقليدية هي النهر الهاديء الذي يجري عبر سهول التاريخ، يحمل في تياراته أثقال الأجيال وتراكمات الماضي، إنها سلطة المألوف والمعتاد، حيث يخيم ظل الأسلاف على الحاضر، ويكون الوزن الثقافي للعرف هو الحكم والفصل، هنا، السلطة ليست بحاجة إلى تبرير، لأنها أصبحت جزءاً من نسيج الوجود اليومي، مثل فصل الشتاء الذي يتبع الخريف.

والشرعية الكاريزمية تشبه النيزك اللامع الذي يثقب ظلمة السماء فجأة، إنها قوة الشخصية الاستثنائية التي تخطف الأبصار وتأسر القلوب، وهنا يتحول الحاكم إلى أسطورة حية، تسبقها سمعتها وتلحقها هيبتها، لكنها كالنيزك - قد تختفي كما ظهرت، غير أنها تتحول إلى مؤسسة قادرة على تجاوز لحظة الولادة.

بينما الشرعية العقلانية القانونية هي عالم النور الاصطناعي المنتظم، حيث تحل القواعد المجردة محل الأشخاص، وتصبح المؤسسات هي الحاكمة لا الأفراد، وهنا السلطة ليست في شخص الحاكم، بل في المنصب الذي يشغله، والدستور الذي يقسم عليه، والمؤسسات التي تحاسبه، إنها شرعية العقل المجسد في قوانين ومؤسسات.

والذروة المأساوية للشرعية الكاريزمية عندما يدعي الحاكم الوحي والإلهام الإلهي، فإنه لا يضفي على نفسه هالة من القداسة فحسب، بل ينقل صراع السلطة من المستوى الأفقي البشري إلى المستوى العمودي الميتافيزيقي، وهنا يتحول الحاكم من مجرد شخص ذي كاريزما استثنائية إلى وسيط بين السماء والأرض، بين الإلهي والبشري. وفي هذه اللحظة بالذات، ينتقل النظام السياسي من حالة يمكن فيها النقاش والحوار والمحاسبة، إلى حالة يصبح فيها أي نقد للحاكم مساً بالمقدس، وأي معارضة هي خروج على الإرادة السماوية، إنها القفزة النوعية التي تحول السياسة من فن الممكن إلى عقيدة مقدسة، ومن مجال للاجتهاد البشري إلى تنفيذ لإرادة إلهية. 

بهذا الادعاء، يعلن الحاكم انفصاله عن دائرة المحاسبة البشرية، ويضع نفسه في فضاء لا تحكمه قواعد المنطق ولا معايير المساءلة الدنيوية، ويصبح النقد ليس مجرد اختلاف في الرأي، بل خروج عن "الحق الإلهي" الذي يمثله الحاكم. إنها الذروة المأساوية في مسيرة الشرعية الكاريزمية، حيث تتحول الشخصية الاستثنائية إلى وسيط مقدس، وتنتقل السلطة من مجال الاجتهاد البشري إلى دائرة الامتياز الميتافيزيقي، في رحلة تخفي وراءها أسئلة وجودية عن طبيعة السلطة وحدود الشرعية ومصير المجتمعات التي تقبل بهذه المعادلة المستحيلة.

وبقراءة بعض دروس من الماضي، نجد أثاراً تاريخية عميقة لتراجيديا السلطة المقدسة، حينما يحول الملوك والأمراء السماء إلى شريك في الاستبداد، ففي المسرح المأساوي لأوروبا خلال القرنين السادس والسابع عشر، شهد العالم ولادة نظرية "الحق الإلهي للملوك" بأبهى حُللها الفلسفية وأكثرها إثارة للجدل، لم تكن مجرد نظرية سياسية عابرة، بل كانت لحظة مفصلية في تاريخ الصراع بين المقدس والدنيوي، بين السماء والأرض. لقد مثلت هذه النظرية محاولة جريئة - أو ربما يائسة - لربط السلطة الأرضية بالمصدر السماوي، حيث أعلن الملوك أنهم يستمدون شرعيتهم مباشرة من العناية الإلهية، لا من إرادة الشعوب ولا من العقل الجمعي، كانوا يرون أنفسهم أوعية مختارة لحكمة إلهية تتجاوز الفهم البشري، وأدوات في يد القدر لتسيير شؤون البشر. لكن هذه الصورة المثالية أخفت وراءها دراما إنسانية مأساوية، فلقد تحولت "الإرادة الإلهية" المزعومة إلى سيف مسلط على رقاب المعارضين، وتحول "الحق المقدس" إلى أداة لتبرير الاستبداد، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الزواج المقدس بين السلطة والدين أن انفجرت المجتمعات الأوروبية في حروب دينية دموية، تجسدت بأقسى صورها في حرب الثلاثين عاماً التي حولت القارة إلى ساحة للمذابح والدماء، كل ذلك تحت شعار الدفاع عن "الحق الإلهي".

لكن التاريخ يثبت أن الشعوب لا تبقى صامتة إلى الأبد، فمن بين الأنقاض والدماء، بدأت تنتفض الأرواح المقهورة، فانبثقت الثورات الشعبية كرد فعل طبيعي على هذه النظرية التي حوَّلت البشر إلى مجرد رعايا في مزرعة الملوك المقدسين. ومن رحم هذه المعاناة، ولدت أفكار جديدة تبحث عن خلاص إنساني من هذه الدوامة، وظهرت "نظرية العقد الاجتماعي" كبديل فلسفي عميق، تنقل السلطة من السماء إلى الأرض، ومن الوحي إلى العقل، ومن الامتياز الإلهي إلى الإرادة الشعبية، فلقد مثلت انتقالاً جذرياً في تاريخ الفكر السياسي، من شرعية تستمد من السماء إلى شرعية تنبع من القاعدة الشعبية، من حكم بالحق الإلهي إلى حكم بالتفويض الإنساني.

هذه الرحلة التاريخية تذكرنا بأن السلطة عندما تلبس ثوب القداسة، وتدعي الانتماء إلى العالم العلوي، فإنها غالباً ما تفقد ارتباطها بالعالم السفلي - عالم البشر وآلامهم وتطلعاتهم وآمالهم. وفي المسرح المعاصر للدول والأمم، تشهد حقبةُ العصر الحديث فصولاً مأساوية جديدة لتجاربَ سياسية تحاول عبثاً خلقَ علاقة بين السماء والأرض، بين المقدَّس والزمني، في محنة المزاوجة القسرية عندما يتحول الدين إلى أداة قمع وتخلف، إنها محاولاتٌ لصبَّ الدين في قوالب سياسية ضيقة، تحوِّله من رسالة روحية تحرر الإنسان إلى أيديولوجيا تسعى لاستعباده..

وهذه التجارب التي تسعى لاختطاف المقدَّس وتوظيفه لخدمة الزمني، سرعان ما تتحول إلى كيانات هشَّة تعاني من أمراض عضال؛ كالاقتصاد الذي يختنق تحت وطأة الأيديولوجيا، حين تتحول الدولة من فضاء للإنتاج والإبداع إلى منصة للخطاب الأيديولوجي، ويسقط العقل الاقتصادي أمام عواطف السياسة، وتتدمر أسس الاقتصاد المنتج لتحل محله اقتصاديات الريع والامتياز، وتتراجع الاستثمارات ويهرب رأس المال لغياب الشفافية وسيادة القانون، حيث تذبل روح المبادرة ويضمحل الإبداع تحت سطوة الخطاب الأيديولوجي الفارغ، وتصبح الدولة كتاجر يحاول البيع في سوق العالم وهو معصوب العينين، يتخبط بلا رؤية ولا بوصلة.

وكذلك من تلك الأمراض السرطانية ذلك النسيج الاجتماعي الممزق، حيث يتحول المجتمع من نسيج متعدد الألوان إلى رقع متنافرة، ويسود منطق "إما معنا أو ضدنا"، وتذوب روابط المواطنة في بحر من الولاءات الضيقة، ويتحول الجيران إلى خصوم، والشركاء في الوطن إلى أعداء، وتصبح الهوية سجناً بدلاً من أن تكون فضاء للانتماء، ويتحول الدين من عامل توحيد إلى أداة تفريق.. أما المرض النازف للروح والمتمثل في هجرة العقول والكفاءات؛ فتشهد هذه الدول نزيفاً مزمناً لأفضل عقولها وأكثرها إبداعاً، بحثاً عن بيئات أكثر انفتاحاً، فكما تهرب الطيور من الغابة المحترقة، يهرب المبدعون من الأجواء الخانقة، وتتحول مراكز الإبداع إلى ساحات للتبعية والتملق، ويصبح الانتقاد النزيه تهمة، والتفكير الحر جريمة، فتفرُّ العقول إلى حيث يُسمع صوتها، ويُقدَّر عطاؤها.

هنا تصبح العزلة الدولية والانكفاء على الذات كحجر صحي مفروض على الدولة، وتتحول من شريك في الحضارة الإنسانية إلى جزيرة معزولة، ترفض العالم ويرفضها، وتصبح العلاقات الدولية ساحة للشك والاتهام، بدلاً من أن تكون مجالاً للتعاون والتبادل، فتتقلص مساحات الحوار، وتضيع فرص التقدم. وفي النهاية، تتحول هذه النظم إلى تبني نظرية المؤامرة منهجاً لتفسير إخفاقاتها، فبدلاً من مراجعة الذات، يتم إلقاء اللوم على قوى خارجية خفية، ويصبح "الآخر" شماعة تُعلق عليها أخطاء الذات، ويتحول النقد البناء إلى "خيانة"، والفشل الداخلي إلى "مؤامرة خارجية".

وهكذا تتحول تجربة المزاوجة القسرية بين الدين والشرعية السياسية إلى سردية مأساوية، حيث يخسر الدين نقاءه الروحي، وتخسر السياسة عقلانيتها العملية، ويخسر المجتمع توازنه وتماسكه، إنها رحلة تنتهي عند منعطف مظلم، حيث لا قداسة حقيقية ولا سياسة رشيدة، بل بقايا دولة محطمة، ومجتمع ممزق، وروح جماعية مثقلة بالإحباط والخيبة.

وبعد تشريح الجسد التاريخي والنظري، يمكننا استشراف أربعة مصائر وجودية تواجه الدولة التي تسوغ سلطتها بادعاء الوحي، كل منها يمثل مساراً دراماتيكياً يحمل في طياته فلسفة خاصة للحياة والموت السياسي:

1 - سيناريو الفينيق - الموت من أجل البعث

هنا تصل التناقضات إلى ذروتها الكارثية، فيحدث ما يشبه الانفجار البركاني للطاقة الاجتماعية المكبوتة، إنها لحظة الحقيقة التاريخية حيث تتحول الدولة إلى مسرح لمأساة إغريقية عظيمة، ويثور بركان الغضب الشعبي من الأعماق، كأنما الأرض ترفض أن تحمل فوقها هذا الثقل من التناقضات، وتتحول الساحات العامة إلى مسارح للدراما الإنسانية، حيث يصبح الناس على استعداد للموت من أجل كرامتهم، ومن ثمة انقلابات عسكرية تأتي كعاصفة تهب من قلب النظام نفسه، عندما يدرك جزء من النخبة أن السفينة تغرق، فيقرر التضحية بالقبطان لإنقاذ صفوة ركاب السفينة، وقد يصل الأمر إلى حروب أهلية تتحول فيها المدن إلى ساحات لمعركة الهويات، حيث يذوب الإحساس الوطني في بوتقة الصراعات الداخلية، وتتفكك الدولة كأنما جسد الأمة يعود إلى عناصره الأولية، فيفقد قدرته على البقاء ككيان موحد.

2- رقصة الإصلاح - فن التخلي الذكي عن السلطة

هنا تلعب النخبة الحاكمة دوراً أكثر دهاءً، إنها رقصة التخلي التدريجي عن الامتيازات قبل أن تُنتزع انتزاعاً عنيفاً منها، وهنا يكون التراجع الاستراتيجي عن الادعاءات المطلقة، مثل تاجر حكيم يخفض سعر بضاعته قبل أن تنتهي صلاحيتها، وتتبني أشكالا محدودة من المشاركة كصمام أمان يطلق البخار الاجتماعي بجرعات محسوبة، فيتحول النظام من قلعة مغلقة إلى حديقة ذات أبواب مشروطة، ومن ثمة التحول نحو الشرعية المؤسسية حيث تنتقل السلطة من جسد الحاكم إلى جسد الدولة، من قدسية الشخص إلى قدسية المؤسسات.

3 - العزلة - السجن الذي تبنيه الدولة بيديها

هنا تتحول الدولة إلى نسخة معاصرة من "الطائر الذي يحبس نفسه في قفص"، بالعقوبات الدولية التي تعمل كجدران خفية تفصل الدولة عن العالم، فيتحول الاقتصاد إلى بحيرة راكدة بدلاً من أن يكون نهراً متدفقاً، وتنخفض المكانة الإقليمية وتتحول الدولة من لاعب إلى متفرج، ومن مؤثر إلى تابع، فتتآكل القدرة على التأثير ويصبح صوت الدولة كصوت يصرخ في صحراء، لا صدى له ولا تجاوب.

4 - الجمود - الموت البطيء تحت شعار البقاء

هذا أخطر المسارات لأنه يشبه الغرق في الرمال المتحركة، لمجتمعات متخلفة تتحول إلى جزر معزولة عن قطار الحضارة العالمي، تعيش على ذكريات الماضي وأوهام المستقبل، حيث لا صراع دراماتيكي ولا تغيير عادل، بل استمرار النظام عبر القمع كجثة حية تتحرك بفعل الصدمات الكهربائية للسلطة، والتدهور البطيء في جميع المؤشرات كسرطان لا يظهر أعراضه إلا بعد فوات الأوان.

هذه المسارات الأربعة ليست مجرد سيناريوهات سياسية، بل هي اختيارات وجودية تواجه كل مجتمع يجد نفسه عند مفترق الطرق بين السلطة المطلقة والحرية، بين ادعاء القداسة وقبول النسبية، بين الوحي المزعوم والإرادة الإنسانية.
****

في الختام، فإن الخلاصة الوجودية تقف على حافة الهاوية الفلسفية التي تواجهها الدولة التي تختار أن تبني شرعيتها على ادعاءات الحق الإلهي، إنها معاناة وجودية في عالم يتحول بسرعة من حولها، كشجرة ضخمة تجذرت في تربة الماضي بينما تحاول أن تظل واقفة في عاصفة الحداثة. وهذه الدولة تشبه سفينة تائهة في محيط العصر، تحاول الإبحار بعيداً عن نجوم العقلانية وبوصلات المؤسسية، معتمدة على رياح الغيبيات وحدها، ولكن التاريخ - ذلك المعلم القاسي - يخبرنا أن مثل هذه السفن إما أن تغرق في ثورات شعبية عارمة، تشبه العواصف التي لا ترحم، أو تتحلل ببطء كسفينة خشبية تلتهمها ديدان الزمن، حتى تفقد قدرتها على البقاء والمنافسة في سباق الأمم.

إن الدرس المصيري الذي تقدمه لنا حكمة التاريخ هو أن البقاء ليس للأقوى ولا للأكثر تمسكاً بالقديم، بل للأكثر مرونة وقدرة على التكيف، والبديل الوحيد عن المأساة هو أن نختار برشاقة مسار التحول الطوعي، حيث ننقل السلطة من سماء الادعاءات الغيبية إلى أرض الإرادة الشعبية، ومن فردية الحاكم إلى تعددية المؤسسات. في هذه المعادلة الجديدة، يجد الدين مكانه الطبيعي كمنبع للأخلاق والروحانيات، كشمس أخلاقية تضيء ولكن لا تحرق، كبوصلة أخلاقية توجه ولكن لا تقيد، بينما تترك السياسة كفن لإدارة المجتمع البشري، تستند إلى العقل والمنطق والمصلحة العامة.

وهكذا، وبينما نواجه تحديات القرن الحادي والعشرين، يصبح الخيار واضحاً؛ إما أن نعيش في متاحف سياسية نحن سجناء فيها، أو نتحول إلى حلقات في سلسلة التطور الإنساني الطويلة، فإما أن نكون أوعية فارغة لادعاءات الماضي، أو نصبح صنَّاعاً لأفق مستقبلي جديد، حيث تلتقي قيم الدين الأصيلة مع متطلبات العقلانية العصرية، في تناغم يخدم الإنسان ويحترم كرامته، ويطلق طاقاته الخلاقة، فالحضارة في النهاية هي رحلة الإنسان نحو الحرية والكرامة، وليست سجناً للعقل والروح تحت أي شعار كان
---------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش


مقالات اخرى للكاتب

الإله الذي اختطفه الملوك: ديكتاتورية وحي