18 - 10 - 2025

لماذا تعاني اللغة العربية في الوقت الراهن؟

لماذا تعاني اللغة العربية في الوقت الراهن؟

ربما من ولد في قرية في جنوب مصر مثلي وعاش فيها سنوات عمره الأولى ولم ينقطع عن زيارتها بشكل دوري كل عام، عليه ألا يشعر بأن اللغة العربية تعاني، وهو يرى حرص أهالي قريته وما يجاورها من قرى على إرسال أبنائهم إلى الكتاتيب فيحفظونه كاملًا وهم دون العاشرة. وكذلك حرص هؤلاء الأهالي بالتبرع بالأراضي والأموال بجمعهم من بعضهم البعض من أجل بناء المعاهد الأزهرية لينخرط أبناءهم في التعليم الأزهري.

يدلل هذا الجانب في عمق المجتمع المصري على الأقل في محافظات الجنوب بشكل واضح على أن اللغة العربية لا تعاني. فهل يمكن أخذ هذا المظهر للقول بأن اللغة العربية ما زالت بعافيتها وعنفوانها. أما القول بأن العربية الدينية - إن صح التعبير - أو المرتبطة بجانب الدين هي التي مازالت فتية وقوية وتشهد إقبالًا كبيرًا لا يستطيع أن ينكره عاقل. لنأتي السؤال الأهم هنا. ماذا عن بقية جوانب اللغة العربية الأدبية والاجتماعية والعلمية. التي تتفاوت فيها اللغة العربية قوة وضعفًا بشكل كبير.

فإذا نظرنا إلى الجانب الأدبي فعلى مدار أكثر من 16 قرنًا من تاريخ اللغة العربية حظي الشعر بالمكانة الأكبر فيها والاحتفاء والتقدير وعليه كانت تعطي الأعطيات والخلع والهدايا والمكانة الاجتماعية الأدبية الكبيرة وكان تلك المكانة لها أسبابها المنطقية من حقبة لحقبة، وتفاوتت جماليات هذا الشعر عبر هذه الحقب. أما السرد فقد أخذ مسارين ناحية رسمية وأخرى شعبية، في الناحية الرسمية اقتصر السرد على فنون أدبية بعينها مثل الرسائل والمقامات والتأريخ باللغة تحتفي بالسجع والجناس في محاولة لأن يكون النثر صنو الشعر المقفى في الموسيقى خاصة مع أمة تحتفي بالشفاهة والسماع أكثر من القراءة والتدوين _والشواهد على ذلك كثيرة_، فكان الاهتمام بالألفاظ نفسها ووقعها على أذن السامع كبيرًا ربما أكبر من الاهتمام بالمضمون في حد ذاته مما عطل من سلاسة السرد. 

أماعن السرد الشعبي فكان أفضل حالًا وأكثر تحررًا وخيالا من الإبداع السردي الرسمي خاصة مع السير الشعبية عنترة، حمزة البهلوان، الزير سالم، الظاهر بيبرس...إلخ وحكايات ألف ليلة وليلة، فقد قطعت هذه الفنون المهمشة وغير المعترف بها رسيمًا شوطًا كبيرًا نحو السلاسة السردية مع الأخذ في الاعتبار أن هذه السير والحكايات كانت تروى بشكل شفاهي في قصور الخلفاء وفي الأسواق والمقاهي أي أن العنصر المتعلق بالموسيقى اللفظية ظل ملازمًا لها؛ لكن من ناحية أخرى كان المضمون الحكائي، بل إن هناك نموذجًا فريدًا استطاع الجمع ما بين سلاسة السرد والتخلي عن الصنعة اللفظية وكتبت بأسلوب أقرب إلى السرد الروائي المعاصر يتمثل في سيرة حمزة البهلوان. 

ومع حالة التردي التي مر بها العالم العربي والإسلامي ضعفت اللغة العربية بصورة كبيرة في كل جوانبها الأدبية، وأصبحت الزخرفة اللفظية الغالبة عليها في شعرها ونثرها، ويظهر ذلك بوضوح في النماذج الموجودة لهذه الحقب خاصة بعد سيطرة المماليك الذي كان اهتمامهم الأكبر بأمور الجند لا الأدب فهم في الأصل عبيد تم جلبهم من بيئة غير عربية وهم صغار وجرت تربيتهم تربية عسكرية في المقام الأول ولم تكن العربية وفنونها الأدبية من دائرة اهتمامهم في زمن كان اعتماد الأدباء والشعراء في المعاش على ما يمنح إليهم من ولاة الأمور. ومع دخول العثمانيين إلى مصر اشتدت أزمة اللغة العربية في جانب الأدبي  فالعثمانيون الذين لم يهمشوا اللغة العربية وحدها بل همشوا العالم العربي كله في جميع مناحي الحياة. خاصة وأن اللغة العربية لم تكن لسان الأتراك، واقتصار دورهم في الدول التي وقعت تحت سيطرتهم على حمايتها عسكريًا وجمع الضرائب من هذه البلاد دون أي دور اجتماعي يسهم في خلق حركة علمية أو أدبية تواكب المتغيرات التي لحقت بالعالم في ذلك الفترة بل عزلتهم عنها تمامًا ولم يبق إلا بصيص من نور يقدمه الأزهر الشريف؛ لكنه لم يكن يشفع لإعادة إحياء للغة لا شعرًا ولا نثرًا. حتى حدثت الصدمة التي تلقها المصريون والعرب على يد الحملة الفرنسية وعلى إثرها أدركوا حقيقة واقعهم المرير في شتى المجالات يظهر ذلك الضعف في الكتب التي وصلت إلينا من هذه الفترة.

 وفي  عصر محمد علي عمل كثير من الرواد الذي ابتعثهم إلى الخارج على نقل ما تعلموه إلى المصريين وبدأت هذه النهضة اللغوية شعرًا فن العرب الأول مع مدرسة «الإحياء والبعث» الذي يكشف اسمها بوضوح عما جرى للغة العربية الأدبية. وفي هذه الفترة أيضًا نشأ الصراع الذي ما زال حيًا حتى الآن بين العامية والفصحى خاصة مع الفنون الأدبية المستحدثة ولم تكن موجودة من قبل التي تعتمد على الحوار وعلى رأسها المسرح بصورته الغربية الذي بدأ مع يعقوب صنوع بالعامية المصرية حتى إن رفاعة رافع الطهطاوي ترجم مسرحية هيلانة الجميلة قبله بلغة تخلط بين العامية والفصحى، وله رأي في هذه المسألة ودعا إلى التصنيف والكتابة بالعامية في بعض المسائل التي تتعلق بالعامة. فيما قام تلميذه محمد عثمان جلال بترجمة مسرحيات راسين وموليير بالزجل العامي المصري. ومع دخول الإنجليز مصر ودعوة المستشرقين لتنحية الفصحى والعمل على تطوير العامية اشتدت حدة الصراع بين الفصحى والعامية وأخذت بعدًا دينيًا وقوميًا في الآن ذاته، بوصف أن هؤلاء المستشرقين يهدفون من خلال دعوتهم تلك إلى تصفية الإسلام نفسه بإبعاد الناس عن اللغة التي نزل بها القرآن الكريم ما كان له أثر عكسي في نفوس المصريين وربطوا ما بين العامية والبعد عن الدين.

 ومع ظهور القومية المصرية  ودعوات أحمد لطقي السيد إلى ما يطلق عليه التمصير أخذت العامية المصرية في بداية القرن العشرين في الصعود لكن الفصحى كانت أيضًا خطت خطوات جادة وقوية خاصة في الجانب الشعري والمدارس الشعرية المختلفة التي ظهرت في هذه الفترة وما تلتها. أما السرد فكان آخذ في طريقه للتشكل يعمل على التخلص من الرطانة اللفظية والمحسنات البديعية، سواء في لغة الصحافة التي كان له دور بارز في تطوير السرد العربي أو مع فن الرواية والقصة القصيرة.

وواصلت الحركة السردية العربية نضجها عبر عقود أسفرت عن فوز أحد أدباء العربية على جائزة نوبل للآداب فكان من حيثيات منح الجائزة له «أسهم في تطور اللغة الأدبية في الأوساط الثقافية على امتداد العالم الناطق بالعربية». وكان أول فائز بهذه الجائزة لغته الأم هي العربية. وحظيت الثقافة العربية بعدد من الكتاب والروائيين الكبار الذي يمتلكون أدواتهم الإبداعية بشكل مدهش ومتفرد، حول الأمة العربية لأول مرة في تاريخها الرسمي من الشعر إلى السرد حتى سادت العبارة التي أطلقها الدكتور جابر عصفور وعبرت عن هذه المرحلة التي نعيشها بأننا نعيش في زمن الرواية. مع الأخذ في الاعتبار كما ذكرنا آنفًا أن الثقافة الشعبية قد احتفت بالسرد منذ القدم عبر سيرها وحكاياتها الشعبية. لكنها كان ينظر إليها من النخبة على أنها متدنية القيمة، وربما يعاقب من يقرأها من قبل آبائهم كما كشف عن ذلك طه حسين سواء في سيرته أو في روايته دعاء الكروان وغيرها من الأعمال.

إذا في إن اللغة العربية تتمتع بالقوة سواء في جانبها الديني أو الأدبي وتعافت في القرن الأخير من عوامل الضعف الأسلوبية التي لحقت بها على مدار قرون لكن لماذا اللغة العربية تعاني رغم أنه يصل عدد المتحدثين بها إلى نحو نصف مليار، وهي لغة الطقوس الدينية لنحو مليار ونصف مسلم حول العالم. 

وفي ظننا أنها تعاني لأنها تحولت إلى لغة محلية، وليست لغة عالمية، لغة ضعيفة من الناحية العلمية ليس لديها ما تقدمه سوى في الجانبين الديني والأدبي، محصورة على الناطقين بها أو من يدينون بالإسلام.  في عصر توغلت فيه التكنولوجيا الرقمية تتعمق أزمة اللغة العربية ففي القرن الماضي كانت المجامع العربية قادرة على تعريب المنتجات الغربية المستحدثة ولم تكن موجودة من قبل مثل الثلاجة والغسالة أو حتى القطار الذي أخذوه من قطار الجمال القديم؛ لكن الآن بات من الصعب على اللغة العربية ملاحقة كل هذه التطورات الحادثة التي جعلت هناك لغة عالمية موحدة يتعامل بها العالم كله أي كانت لغته والمتمثلة في اللغة الإنجليزية. وفي هذا تتشارك اللغة العربية مع لغات العالم بيد أنها تختلف بأن اللغات الأخرى مثل الفرنسية والألمانية لديها ما تقدمه بلغتها، ولا يتعلم أبناؤهم العلوم الطبيبة المختلفة والهندسية بلغة أجنبية لأنهم مشاركين في صنع هذه العلوم ولهم إسهاماتهم فيها وهو ما تفتقده اللغة العربية تمامًا مما يجعل منها في هذا المضمار لغة تابعة غير قادرة على التخلص من هذه التبعية.

ويقودنا الحديث عن التبعية إلى مسألة جانب أخر من الجوانب التي تعاني منها اللغة العربية ويتمثل في الجانب الفكري غير قادرة حتى الآن التعبير عن هويتها التي تسمح لها بمواكبة التطورات الحديثة. وتتجلى هذه التبعية لدى كثير من المترجمين غير المنغرسين في الثقافة العربية بإرثها الثقافي الطويل، وعلى الجانب الآخر مولعين بالثقافة التي ينقلون عنها يتماهون معها في كثير من الأحيان، وهو الحادث أيضًا مع عدد المثقفين والكتاب يتحدثون بلسان عربي لكن بتفكير غربي لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات العربية، مما يجعل الثقافة العربية الحديثة فكريًا غارقة بين اتجاهين متعارضين الأول منفصل عن الثقافة العربية يريد هدمها والسير على غرار النموذج الغربي المتقدم واتجاه معارض يوغل في التراث والتاريخ العربي ويعمل على إعادته بزمنه القديم لا وفق لمقتضيات الواقع المعاصر. أحدهم يرفع شعار تجديد الخطاب الثقافي والديني بغرض هدمه وآخر يشكك في نوايا هؤلاء الذين يراهم يستهدفون الدين. حلقة مفرغة يدور فيها العقل العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن لم يستطع تجاوزها.
----------------------------
بقلم: د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية

العدد 342 من المشهد الأسبوعية ص 10

مقالات اخرى للكاتب

لماذا تعاني اللغة العربية في الوقت الراهن؟