23 - 10 - 2025

حرب غزة بعد مرور عامين .. ماذا تغير وكيف سيكون مستقبل الصراع مع إسرائيل؟

حرب غزة بعد مرور عامين .. ماذا تغير وكيف سيكون مستقبل الصراع مع إسرائيل؟

- أصوات يهودية قد تشجع الحكومات الغربية على اتخاذ مواقف لتقييد وكبح الروح العدوانية المسلحة لدولة الاحتلال وللجماعات اليهودية المتطرفة والمسلحة 

بات واضحًا أن هجوم السابع من أكتوبر 2023، الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى المتحالفة معها، انطلاقا من قطاع غزة، يُمثل علامة فارقة ونقطة تحول في الصراع الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط والممتد منذ أكثر من قرن. فقد أطلق هذا الهجوم شرارة حرب هي الأطول والأوسع نطاقًا في تاريخ الحروب الإسرائيلية- العربية، منذ حرب عام 1948. والنتائج المترتبة على هذه الحرب الأخيرة قد تصبح نقطة تحول في مسار هذا الصراع، مثلها مثل حرب عامي 1948 و1967، وما ترتب عليهما من نتائج رسمت ملامح الصراع. وبرز في أعقاب حرب 1967، مساران لتعديل نتائجها. فهناك أولًا المسار العسكري، الذي بدأ بحرب الاستنزاف على الجبهة المصرية التي استمرت ثلاث سنوات (1967-1970)، وهو المسار الذي بلغ ذروته في حرب أكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية. وبرز المسار الثاني التفاوضي والذي بدأته مصر بمبادرة السلام التي طرحها الرئيس الراحل أنور السادات في عام 1977، وانتهى بتوقيع اتفاقيتين لإطار السلام في الشرق الأوسط تم توقيعهما بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة في كامب ديفيد عام 1978، ثم معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979. واكتسب هذا المسار التفاوضي زخمًا بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في أكتوبر 1991، في أعقاب حرب تحرير الكويت أوائل ذلك العام، وهو المسار الذي فتح طريقا للمفاوضات بين إسرائيل وكل من الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، أدت إلى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتوقيع معاهدة سلام أنهت رسميا حالة الحرب بين إسرائيل والأردن، وتخلى الأردن بموجب هذه المعاهدة عن مطالبته بالضفة الغربية لصالح حل سلمي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. 

أدت هذه الاتفاقيات إلى جانب قرار إسرائيل الانسحاب من جانب واحد من جنوب لبنان في عام 2000، ثم من قطاع غزة في عام 2005، إلى تعزيز النتائج التي ترتبت على المسار التفاوضي، خصوصًا أنه أدى، من منظور القانون الدولي، إلى ترسيم وتثبيت للحدود بين إسرائيل وكل من مصر والأردن ولبنان، وقد يؤدي الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى تثبيت حل الدولتين في مواجهة محاولات إسرائيل والولايات المتحدة فرض حل الدولة الإسرائيلية الواحدة، الذي يقوم على ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة وفرض السيادة الإسرائيلية عليها. وأدى تعثر "عملية أوسلو" وعدم إبرام اتفاق سلام نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين، إلى تكرار المواجهات العسكرية بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة والفصائل داعمة لها، والتي امتدت أحيانًا إلى الجبهتين اللبنانية والسورية وشملت اليمن وإيران، لكن دون الوصول إلى حرب شاملة، باستثناء الحرب مع إيران التي استمرت 12 يومًا، رغم أن إيران ليست من دول الجوار الحدودية. وتم احتواء هذه المواجهات العسكرية السابقة التي تمحورت أساسًا حول قطاع غزة، باستثناء حرب عام 2006، بين إسرائيل وحزب الله باتفاقيات تهدئة وهدنة من خلال مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وحماس عبر وسطاء إقليميين ودوليين. 

وأعلنت إسرائيل موافقتها على الخطة التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم 29 سبتمبر، لإنهاء الحرب في غزة، وورود تقارير عن بدء تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة، بعدما أبدت حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى رغبتها في التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الحرب، والتزامهم بتنفيذ البند الثالث، الذي يقضي بإعادة جميع الرهائن الإسرائيليين المتبقين لديها، أحياء وأمواتًا، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خط متفق عليه وتعليق جميع العمليات العسكرية والإفراج عن سجناء فلسطينيين وتسليم جثامين فلسطينيين قتلوا أثناء الحرب، حسبما نص البندان الثالث والرابع من الاتفاق. إلا أن قصف غزة استمر، ولا يعرف أحد ما إذا كانت ستنتهي بالفعل، في ضوء استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، رغم مطالبة الرئيس ترامب بوقف القصف فورًا، كي يتسنى إخراج الرهائن بأمان وسرعة، مشيرًا إلى خطورة التسليم في ظل الوضع الراهن في القطاع الذي وصفه بأنه خطير جدًا.  ولا يعرف أحد كيف ستنتهي، هذه الحرب في ضوء إصرار حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى على إرجاء "مناقشة مستقبل القطاع لحين طرح القضية من خلال إطار وطني فلسطيني جامع ستكون حماس من ضمنه وستسهم فيه"، الأمر الذي يُشير بوضوح إلى أن لديها تحفظات على باقي بنود الخطة التي جرى تقليصها إلى 20 بندًا. وفي ضوء الفجوات التي لا تزال قائمة بين تصور حماس وحلفائها وبين التصورين الإسرائيلي والأمريكي. هناك تقييمات مختلفة للخطة التي وصفتها تقارير إعلامية دولية بأنها "طموحة للغاية"، بشأن تنفيذ بقية البنود، الأمر الذي يعني أننا سنكون في قطاع غزة في حالة أقرب إلى حالة الوضع على الجبهة اللبنانية الآن، حيث تتمتع القوات الإسرائيلية بحرية تحرك كاملة في التعامل مع ما تراه تهديدا من قبل حزب الله وتستهدف مقاتليه ومواقعه وتقييد كامل لأي رد من الحزب على الهجمات الإسرائيلية. وعلى الرغم من تصريح ترامب بأن الخطة تستهدف إقامة سلام دائم في الشرق الأوسط، إلا أنها لم تتضمن أي بنود تتعلق بالضفة الغربية المحتلة. 

ورغم أن الخطة تضمنت بنودًا إرشادية على قدر كبير من الأهمية، مثل تأكيد عدم إجبار سكان غزة على التهجير (البند 12)، وعدم إعادة احتلال قطاع غزة أو ضمه (البند 16)، وضمان استمرار دخول المساعدات إلى القطاع وتوزيعها، من خلال الأمم المتحدة ووكالاتها، والهلال الأحمر، بالإضافة إلى المؤسسات الدولية الأخرى غير المرتبطة بأي شكل من الأشكال بأي من الطرفين، واستمرار الآلية المطبقة بموجب اتفاقية 19 يناير 2025، بخصوص فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين، إلا أن البنود الأخرى والتصورات التي اقترحتها بخصوص مستقبل القطاع تمنح إسرائيل سيطرة فعلية أمنية وعسكرية على القطاع حتى بعد الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من القطاع، وفق البنود 13 و14 و15 من الخطة، التي تضمن لإسرائيل رقابة قوية ودولية على القطاع وتفرض قيودًا شديدة على الفلسطينيين، على نحو يعكس موازين القوة التي أسفرت عنها الحرب، وعلى الرغم من إقرارها بحق الفلسطينيين في أن تكون لهم دولة مستقلة، إلا أنها لم تقدم التزامًا واضحًا بحل الدولتين أو أي جداول زمنية أو أي آليات محددة.    

حدود استخدام القوة بعد الحرب

مثلت حرب غزة نقطة تحول تاريخية في مسار هذا الصراع، فالنتائج التي أسفرت عنها هذه الحرب وطريقة حلها، ستحكم شكل الصراع ومساره لسنوات، وربما لعقود مقبلة، وسيكون لها تأثيرات بعيدة المدى على المستويين الداخلي والإقليمي تمتد إلى المستوى الدولي، إذ أكدت هذه الحرب البعد العالمي للقضية الفلسطينية على النحو الذي كشفته خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة الشهر الماضي، ويكشفه تضامن حركة المجتمع المدني العالمية المتزايد مع الفلسطينيين وحقوقهم، والانقسامات الحادة في الرأي العام حول سياسات الحكومة الإسرائيلية، التي تعد الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ دولة إسرائيل القصير نسبيًا (77 عامًا)، والتي شملت جماعات يهودية في العالم، على النحو الذي قد يضعف تهمة العداء للسامية التي لطالما وجهتها إسرائيل لأي انتقادات لسياسات حكوماتها. 

لقد كشفت هذه الحرب مدى هشاشة التحالفات الأمريكية الأمنية والعسكرية والاستراتيجية مع الدول العربية ومع تركيا، إذ واجهت هذه التحالفات اختبارًا عمليًا بالهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة الذي استهدف قيادات من حركة حماس، وهو الهجوم الذي كشف المدى الذي يمكن أن تصله السياسات الإسرائيلية، الأمر الذي أثار مخاوف حلفاء آخرين لواشنطن في منطقة الخليج وخارجها. كذلك كشفت الحرب عدم فاعلية الترتيبات الإقليمية الرسمية، من خلال أطر مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي على المستويين الإقليمي والدولي، والترتيبات والتحالفات غير الرسمية من خلال ما يعرف بمحور المقاومة، الذي شكلته وترعاه إيران، والمؤلف أساسًا من جماعات وفصائل شيعية موالية لطهران، إلى جانب الفصائل الفلسطينية السُنيّة، وأثار هذا التشكيل مخاوف لدى دول المنطقة وخارجها وشكوكًا في الغرض الرئيسي في صلة هذا التحالف بالتصورات الإيرانية للمنطقة. وكان للأمرين معاً تأثير على ميزان القوة بين إسرائيل والفلسطينيين، إذ أظهرت الحرب الأخيرة اختلال هذا الميزان بشدة لصالح إسرائيل، وقد زادت سلسلة من التطورات الإقليمية والدولية من اختلاله، بالرغم مما قد يبدو من جوانب ضعف بنائية وسياقية لدى إسرائيل. والواضح من مجريات الأمور أن الوضع الراهن يتطلب من الطرف الفلسطيني والأطراف العربية والدولية الداعمة اتباع ما يعرف باستراتيجيات التمايز التي توازن بين نقاط الهشاشة والضعف، مع الأخذ في الاعتبار نقاط القوة التي تراكمت لصالح القضية الفلسطينية قبل هذه الحرب وأثناءها وبعدها، وحسابها بدقة، والانتباه إلى المتغيرات في البيئات الثلاثة للصراع الداخلية والإقليمية والدولية، مع التركيز على الجوانب الأخلاقية والقانونية وعدالة القضية الفلسطينية والسعي لتطوير حركة التضامن العالمية لحصار السلوك العدواني للحكومة الإسرائيلية الحالية ولأي حكومة قد تتشكل في المستقبل. صحيح، أن هناك عوامل ضعف بنائية لدى إسرائيل كشفها هجوم السابع من أكتوبر، لكن لا ينبغي في الوقت نفسه التقليل من قدرة إسرائيل على معالجة هذه العوامل وتعزيز التماسك الداخلي على نحو لا يتيح للطرف الفلسطيني استغلال التناقضات الداخلية بنفس القدر الذي تفعله إسرائيل فيما يخص التناقضات الداخلية على الساحة الفلسطينية وفي البلدان العربية الأخرى وعلى المستوى الإقليمي. 

والسؤال المطروح على المستوى الفلسطيني والعربي، وربما الدولي، هو كيفية تقييد الحرية التي تتمتع بها إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة، في شن الحرب ضد أي طرف في المنطقة ترى أنه يشكل تهديدًا لأمنها، وهو سؤال تزداد أهميته مع صعود تيارات اليمين القومي والديني الصهيونية وتزايد نفوذها السياسي، ذلك أن العقيدة المعلنة لكثير من المُنظّرين والزعماء في هذا التيار تقر بأن إسرائيل ليست في حاجة لأي مبرر لمحاربة الفلسطينيين وطردهم وإقامة إسرائيل الكبرى، وإعادة بناء الهيكل في القدس. لقد دفع سلوك إسرائيل العدواني ضد الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية، والتمادي في استخدام القوة المفرطة وغير المتناسبة إلى حد يصل إلى شن حرب إبادة تنتهك كل المواثيق والأعراف الدولية، العديد من الدول الأوروبية إلى اتخاذ قرارات بعدم تصدير أي أسلحة لإسرائيل، وأعلنت بعض الحكومات الأوروبية أنها ستقوم باعتقال أي إسرائيليين مطلوبين للمثول أمام المحكمة الجنائية للاشتباه في ارتكابهم جرائم حرب، وعلى الأطراف العربية وإسرائيل التفكير في كيفية تطوير هذا الموقف لتقييد قدرة إسرائيل على شن حروب عدوانية ضد الفلسطينيين أو ضد أي دول عربية أخرى، خصوصًا إذا كان اختلال ميزان القوة العسكرية لا يوفر أي ردع لها. قد تكون إيران التي استطاعت تطوير قدرات عسكرية تمكنها من ردع العدوان الإسرائيلي عليها، وهو ما حققته مصر إلى حد ما من خلال الأدوات الدبلوماسية وأيضًا من خلال تطوير القوات العسكرية وتحديثها، وهو ما تشترطه السعودية مقابل توقيع اتفاق مع إسرائيل. وتضمنت بعض بنود خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة، وكذلك في الرد على الهجوم على قطر، بعض المؤشرات لهذا التوجه في المستقبل لكنها لا تتناسب بأي حال مع حجم التحديات المصاحبة لصعود التيارات المتطرفة.

 

المعادلات الحاكمة للصراع 

قد يكون من المفيد الوقوف على التغيرات التي طرأت على المعادلات الحاكمة للصراع وتأثير هذه التغيرات على المسار المستقبلي للصراع. المعادلة الأساسية الحاكمة مرتبطة بالتصورات الجذرية المرتبطة بجوهر هذا الصراع والمستمدة من تصورات دينية عامة تخضع لتفسيرات متباينة من حيث تشددها، وتضفي على هذا الصراع طابعًا دينيًا بين مطلقات إيمانية وغيبية، تتمحور حول تصورات للجماعات المختلفة عن تفسيرات دينية للتاريخ وللحوادث ونبوءات أخروية ترسم ملامح محددة للمستقبل. هذه التصورات لم تؤثر على إمكانية التعايش بين اليهود وأتباع الديانات الأخرى والاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، بغض النظر عن معتقداتهم الخاصة. فالمشكلة ليست في المعتقدات الإيمانية في حد ذاتها وإنما في تفعيلها في الواقع من خلال توجهات أيديولوجية وسياسية من خلال تفسيرات متشددة للنصوص الدينية والضغط من أجل ترجمتها لسياسات عامة. والمشكلة الثانية في حالة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني إنما تتمثل في تسليط الضوء، لاسيما في المجتمعات الغربية وفي العالم على التطرف الإسلامي والتجاهل التام لتأثير التطرف اليهودي، ربما كان لهذا الأمر صلة بطريقة التعبير عن التوجهات الدينية.

المشكلة الأساسية لهذه التفسيرات الدينية، سواء للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني أو لأي صراعات أخرى، أنها تختزل الأسباب والعوامل الأخرى للقضية أو المشكلة على نحو يجعل من الصعب تفكيكها وحلها، وإذا أضفنا لهذه التفسيرات الدينية المتشددة السرديات الأيديولوجية للتاريخ العام وللتاريخ الخاص للشعوب والمجتمعات، يصبح الصراع صراعًا أبديًا وغير قابل للحل إلا باختفاء أحد طرفيه، أي يصبح صراعًا على الوجود لا الحدود. وبغض النظر عن إمكانية تصفية وجود أي من طرفي الصراع، والتي نجد لها تعبيرات محددة في المواقف المتطرفة، مثل التصريحات الصادرة عن الزعماء الدينيين أو السياسيين الإيرانيين عن ضرورة محو إسرائيل من على الخريطة، أو نجد تعبيرات لها فيتصريحات مسؤولين سياسيين وزعماء دينيين، من التيارات المسيحانية اليهودية أو مسيحية عن ضرورة طرد الفلسطينيين أو قتلهم وإقامة المملكة اليهودية التي تمهد لقدوم المسيح والحكم الألفي، فإن مثل هذه التصريحات لها تأثير عملي في إدراك الأطراف المتصارعة عن أهداف الطرف الآخر ونواياه، وتدفع في لغة الخطاب السياسي العام توصيفات لا علاقة لها بالواقع وإنما بإدراكه، على النحو الذي يمكن استكشافه من التصريحات التي أطلقت من الزعماء الإسرائيليين عن أن هجوم السابع من أكتوبر يمثل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، والحديث المتكرر عن أن قيام دولة فلسطينية يشكل تهديدًا وجوديًا. وتعزز بعض التصريحات الصادرة من بعض الزعماء في محور المقاومة هذا الإدراك، ليس من قبل إسرائيل وحدها وإنما من قبل الرأي العام العالمي. أدى التركيز الشديد على هذا التهديد إلى تجاهل السياسات الفعلية التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزة من خلال حرب الإبادة والتهجير، والتي لم يلتفت الرأي العام العالمي لها إلا بعد شهور من اندلاع الحرب وما صاحبها من فظائع. واستغلت إسرائيل بعض الآراء التي تبرز من خلال منصات إعلامية لها تأثير كبير على الجمهور التي عبر عنها المناصرون لمحور المقاومة الذين يرددون كثيرا أنه لولا الدعم الغربي لإسرائيل بعد هجوم السابع من أكتوبر لمنيت بهزيمة ساحقة تكتب نهاية الدولة والمشروع الصهيوني، والحديث المتكرر لنتنياهو عن أن إسرائيل تخوض حربا من أجل الدفاع عن الحضارة الغربية، إنما كان لحشد الدعم والتصدي للانتقادات الموجهة لسياستها. 

يشير البند 18 من خطة ترامب إلى "إطلاق عملية حوار بين الأديان" بعد إنهاء الحرب في غزة، وأن هذا الحوار يقوم على "قيم التسامح والتعايش السلمي"، وهدفه هو السعي "لتغيير عقليات وتصورات الفلسطينيين والإسرائيليين، من خلال التأكيد على منافع السلام"، وتحدث البند 20، من الخطة عن إطلاق حوار "بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي لتعايش سلمي ومزدهر"، إن مثل هذه الأفكار ربما تستند إلى نتائج استطلاعات للرأي سابقة على حرب غزة تشير إلى أن غالبية الإسرائيليين والفلسطينيين يريدون السلام، لكن المشكلة في وجود مُفسدين أيديولوجيين من كلا الجانبين، وفي الشكوك التي تساور كل طرف في نوايا الطرف الآخر. ويرى المختصون في الشؤون الإسرائيلية وفي الصراع العربي الإسرائيلي، أن من شأن معالجة هذا الأمر أن يفتح الطريق للمضي قدمًا في إيجاد حل سلمي. لكن قبل الاستطراد في مناقشة هذه النقطة، فإننا في حاجة ماسة لتحديث استطلاعات الرأي هذه بعد حرب غزة وتحليل نتائجها من أجل الانطلاق من الواقع وحقائقه بدلًا من السير وراء التصورات.  

مستقبل الصراع بين اليأس والأمل

هناك عوامل كثيرة جعلت الحرب الراهنة في غزة مختلفة في جوانب كثيرة عما سبقها من مواجهات عسكرية بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع أواخر عام 2005، والذي جاء بعد مرور خمسة أعوام على انتفاضة الأقصى التي أعقبت فشل التوصل إلى اتفاق بخصوص صيغة الحل الدائم للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني في مفاوضات كامب ديفيد الثانية في عام 2000، والتي حددتها اتفاقية أوسلو عام 1993. وعمقت التطورات على الساحة السياسية الإسرائيلية منذ عام 2000، انعدام ثقة الطرف الفلسطيني والأطراف العربية بشكل عام في إمكانية إحلال السلام في المنطقة، وعززت الاعتقاد بأن المطروح، لاسيما بعد الاتفاقيات الإبراهيمية والحديث عما يعرف بصفقة القرن، أن ثمة حل يجري الترتيب له على يقوم على فكرة تصفية القضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني. وأدى حديث نتنياهو عن أن الهدف الذي يسعى لتحقيقه هو إقامة "إسرائيل الكبرى" إلى توسيع أزمة الثقة في النوايا الإسرائيلية لتشمل أطرافًا عربية أخرى. مثل هذه السياسات والتصريحات ولدت حالة من اليأس لدى الفلسطينيين امتدت إلى الشعوب العربية، ومن شأن هذه الحالة أن تؤجج مشاعر الغضب ليس بسبب السياسات العدوانية الإسرائيلية، وإنما إزاء السياسات العربية التي تظهر مستوى من العجز الشديد وامتهان الكرامة، ودفع العديد من الأجيال الشابة إلى فتح نقاش جدي حول الأولويات على النحو الذي كشفته مظاهرات المغرب التي تتطلب تحليلًا دقيقًا لدوافعها وللشعارات التي ترفعها. هذه المظاهرات قد تكون مؤشرًا لما هو قادم في بلدان أخرى في المنطقة، أو تدفع كثير من الحكومات إلى مراجعة سياساتها تجاه الفلسطينيين وإسرائيل.

إن أي جهود لإقامة حوار حول التعايش ستفشل ما لم يتم التعامل بحزم مع التطرف الإسرائيلي الذي انتقل من مرحلة الآراء الخاصة لجماعات هامشية وخارجة على القانون، مثل حركة كاخ التي أسسها الحاخام المتطرف المولود في نيويورك مائير كاهانا الذي اغتاله مهاجر مصري هناك في عام 1990، هذه الحركة هي المنظمة الأم التي انبثق منها العديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي أصبحت شريكًا مؤثرا في الحكومات الإسرائيلية خلال العقدين الماضيين. لكن ثمة بارقة أمل تتمثل في تزايد الأصوات اليهودية داخل إسرائيل أو خارجها التي تنبه إلى خطورة هذه الجماعات المتطرفة ليس فقط على مستقبل إسرائيل وإنما على مستقبل اليهود في العالم. من هذه الأصوات الحاخام يسرائيل دوفيد وايس، وهو ناشط مناهض للصهيونية والمقيم في نيويورك، وأحد أبرز المنتقدين لإسرائيل وقادتها ويُشير إلى أن الجرائم التي يرتكبونها في غزة، أدت إلى حالة خطيرة يواجه فيها اليهود العاديون في أنحاء العالم عداءً بسببه، ويرى أن الحركة الصهيونية تتعارض مع مبادئ اليهودية، وتغذي معاداة السامية وتُعرّض المجتمعات اليهودية في أنحاء العالم للخطر، نتيجة للصورة النمطية التي تضفيها هذه الممارسات التي ترتكبها إسرائيل باسم اليهود. هناك دراسات عديدة ليهود كشفت المدى الذي يمكن أن يصل إليه التيار اليميني التصحيحي أو الإحيائي في الحركة الصهيونية بداية من الصفقات السرية التي عقودها مع النازي في ألمانيا والفاشية في إيطاليا في الثلاثينات، لدفع اليهود في بلدان أوروبا للهجرة إلى فلسطين، والتي نشر وثائقها ليني برينر، وهو كاتب يهودي يقيم أيضا في نيويورك في كتاب بعنوان "الصهيونية في زمن الدكتاتورية"، الذي صدر في عام 1983، وترجمه الدكتور محجوب عمر للقراء العرب في طبعة صدرت في عام 1985.    

وواجه هذا الكتاب حملة شعواء من وسائل الإعلام الأمريكية والعديد من الدوائر المرتبطة بالمؤسسة الأمريكية وبالصهيونية مما دفع المؤلف إلى نشر دراسة أخرى عن اليهود في أمريكا، نشرها في كتاب صدر عام 1986، قدم فيه توثيقًا للحملة التي تعرض بسبب الكتاب والتي كانت دافعًا له لدراسة الوضع الراهن للجماعات اليهودية في الولايات المتحدة التي وصفها بأنها أرض الميعاد الحقيقية بالنسبة للغالبية الساحقة لليهود في العالم. والحرب التي تشنها الصهيونية على هذه الأصوات اليهودية المعادية للصهيونية شعواء، ويلجأ فيها الصهاينة وأنصارهم إلى العنف والترويع والقمع على النحو الذي أوضحه الحاخام دوفيد وايس الذي اتهم الصهاينة بالتحريض المباشر على الكراهية ضد اليهود لتحقيق أجنداتهم الخاصة، مشددًا على أن الصهيونية حركة قومية علمانية تُشوّه الهوية اليهودية وتمثل تفسيرًا خاطئًا لماهية اليهودية من جميع النواحي. لكن هناك أصوات يهودية أخرى علمانية، من اليمين واليسار، تعارض الصهيونية وهم مكون رئيسي في حركة التضامن العالمية مع الفلسطينيين والمناهضة لإسرائيل وسياساتها، وينضم عشرات الآلاف منهم للمظاهرات في أمريكا وفي أوروبا. وهذه الحركات اليهودية المعارضة للصهيونية ولإسرائيل وسياساتها موجودة منذ بداية الحركة الصهيونية، لكن صوتها لم يكن مسموعًا بسبب سياسات الحكومات الأوروبية التي أوجدت ما يعرف بـ "المسألة اليهودية" في الفترة التي تزامنت مع بروز "المسألة الشرقية". وعلا صوت هذه الجماعات وأصبح مسموعًا منذ الانتفاضة الفلسطينية في عام 1987، وحطمت الصورة النمطية التي رسمتها الدعاية الصهيونية والغربية للشخصية اليهودية. 

لكن هذه التحولات لم تحظ بالاهتمام الكافي من الباحثين والدارسين والكتاب العرب، الذي يميل خطابهم إلى التركيز على ما يعتبرونه ثوابت حاكمة للموقف من إسرائيل ومن اليهود المقيمين فيها، رغم تأكيدهم المتكرر عن تمييزهم بين اليهود والصهيونية. قد تشجع هذه الأصوات اليهودية الحكومات الغربية على الانتقال من انتقاد السياسات الإسرائيلية دون خوف من اتهامهم بمعاداة السامية، إلى اتخاذ مواقف عملية ومؤثرة على نحو يساعد في تقييد وكبح الروح العدوانية المسلحة للدولة وللجماعات اليهودية المتطرفة والمسلحة في الداخل والتي تستهدف الفلسطينيين في إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة على حد سواء. ثمة مؤشرات في خطة ترامب تشير إلى تأثير مثل هذا الوعي الجديد الناشئ على المستوى الرسمي العام في البلدان الغربية، والسؤال المطروح الآن كيف يمكن الإمساك بهذه الفرصة والبناء عليها من أجل تغيير الوضع الراهن وتعديل الميزان المختل، والنجاح في هذا التحرك مرهون بالتزامنا بالمبادئ الإنسانية العامة ونبذ الكراهية.  
---------------------------------------
بقلم: أشرف راضي
من المشهد الأسبوعية

العدد 342 من المشهد الأسبوعية ص 5

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة بعد مرور عامين .. ماذا تغير وكيف سيكون مستقبل الصراع مع إسرائيل؟