13 - 10 - 2025

لعبة السلام

لعبة السلام

في عالمٍ تتشابك فيه السياسة بالدعاية، لم يعد السلام قيمة أخلاقية بل سلعةً لتلميع الزعماء، هكذا خرج دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، يتباهى: "أنهيت سبع حروب وسأنهي الثامنة"، مطالبًا بجائزة نوبل للسلام، لأنه أنقذ العالم من الانفجار، أراد أن يُخلَّد بوصفه "رجل السلام" متجاهلًا أن السلام الحقيقي هو إقامة عدالة تردع أسباب الحروب قبل اندلاعها، لم تمنحه لجنة نوبل الجائزة رغم ترشيحه أكثر من مرة، فالرجل بلا مبدأ ثابت، يتعامل مع العالم كما لو كان أحد فروع كازينوهاته: يوقّع اتفاقات هنا ويشعل صراعات هناك، سلام بلا عدالة مجرد صفقة مربحة مع الطرف الأقوى، السلام لديه أن يخافك الآخرون بما يكفي ليبتعدوا عنك، أما الجائزة، فليست إقرارًا أخلاقيًا، بل وساماً سياسياً يعلق على صدر من أرعب خصومه أكثر.

وفي مفارقة درامية، ذهبت الجائزة عام 2025 إلى الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، منحتها اللجنة النرويجية الجائزة لدفاعها عن الحقوق الديمقراطية في فنزويلا وسعيها لانتقال سلمي للسلطة، مشهد مثالي وخطوة منسجمة مع تقاليد الجائزة، لكن خلف الصورة الوردية تختبئ ملامح سياسية معقدة، وتثار أسئلة كثيرة.

قبل إعلان الجائزة بأشهر، ظهرت ماتشادو في مؤتمر "وطنيون من أجل أوروبا" في مدريد، تحت شعار "اجعل أوروبا عظيمة مجددًا" - الشعار المستعار من خطاب ترامب ذاته - محاطة بزعماء اليمين المتطرف الأوروبي الذين رفعوا شعارات "الاسترداد" في استدعاء رمزي لحروب الأندلس، في كلمتها قالت: "ما يحدث في فنزويلا هو معركة من أجل الحضارة الغربية نفسها"، العبارة نسخة من خطاب ترامب القديم: الغرب هو النظام، والآخر هو الفوضى، وبعدها بأيام، ذُكر أن حزبها "فينتي فنزويلا" وقّع مذكرة تفاهم مع حزب الليكود الإسرائيلي، الذي قدّم نفسه في المؤتمر بوصفه "خط الدفاع الأول عن أوروبا ضد الثقافة الدخيلة"، بدا المشهد وكأن القوى القومية في أوروبا ويمين واشنطن والمعارضة الفنزويلية يتحدثون اللغة نفسها، ويتقاسمون الأعداء أنفسهم.

تلتقي رغبة ترامب في نوبل مع خطاب ماتشادو التي نالتها بالفعل، فكلاهما يرى السلام من منظور الانتماء، ومنطق القوة لا العدالة، ترامب أرادها لأنه "منع الحروب"، وماتشادو نالتها لأنها "خاضت معركة سلمية" ضد خصومها، قالت ماتشادو بعد فوزها: "لقد كافحنا بلا عنف من أجل استعادة وطننا، ونحن مستمرون حتى نعيد فنزويلا إلى عائلتها الغربية"، وكأن الغرب أصبح "عائلة" لا يدخلها إلا من تشهد له لجان معينة بالطهارة السياسية، تحوّل السلام في القرن الحادي والعشرين إلى لغة سلطة لا وعد مصالحة؛ إلى شعار سياسي باسم النظام لا الإنسان، أصبحت جائزة نوبل للسلام تُمنح لمن يتقن خطاب السلام لا من يصنعه.

في الشرق الأوسط، حيث تشتعل الحروب ويبدو المشهد أكثر فجاجة، غالبية الشارع الإسرائيلي يريد إنهاء الحرب لأن كل بيت فيه جندي ينتظر عودته، وفي غزة، كل مشرد ينتظر أن تنتهي الحرب نفسها، لكن من يملك قرار إيقافها يلاعب الجميع، مع كل "هدنة" جديدة، تتكرر اللعبة القديمة: يعلن العالم عن "سلام مؤقت" هو في الحقيقة استراحة بين جولتين وفقط.

ربما السؤال الذي لم تعد نوبل قادرة على الإجابة عنه هو..

هل السلام هو غياب السلاح، أم غياب الظلم؟

ومن يملك الحق في تعريف السلام أصلا؟

-----------------------------------

بقلم: إنچي مطاوع

مقالات اخرى للكاتب

عادل عبد الفتاح: مصر تتصدر مشهد إعمار غزة و فاتورة الدمار 75 مليار دولار