نظم مركز الصين الدولي للتواصل الصحفي في بكين محاضرة مميزة بعنوان “جوهر التحديث الصيني.. النمط وخصائصه”، قدمتها الدكتورة وي تشي رونغ، أستاذة بجامعة الدراسات الدولية ببكين، والتي استعرضت خلالها التاريخ العريق والثقافة العميقة التي شكلت هوية الصين عبر العصور، وصولاً إلى ملامح نهضتها الحديثة.
في مستهل المحاضرة، أشارت الدكتورة وي تشي رونغ إلى أن الأسرة الصينية الأولى هي أسرة شيا التي تأسست عام 2070 قبل الميلاد، لتبدأ معها أولى ملامح الحضارة الصينية القديمة.
وأكدت أن الفكر الصيني، الذي تبلور عبر القرون، ارتكز على القيم الأخلاقية والإنسانية التي دعا إليها كونفوشيوس، المفكر والمعلم العظيم الذي غدا رمزاً للوسطية والاعتدال، ومصدر إلهام للثقافة الصينية.
وأوضحت أن كونفوشيوس لم يكن مجرد فيلسوف، بل كان مصلحاً تربوياً أسس عدداً من المدارس، وعمل على التعليم وفق الكتب التاريخية القديمة، وكان له 3000 تلميذ، من بينهم 72 حكيماً بارزاً.
كما أسهم فكره في ترسيخ مبادئ الاحترام للكبار، والحب للصغار، والتقدير للأساتذة، إضافة إلى قيم الصدق، والوفاء بالوعود، والتواضع، والأدب.
وتطرقت المحاضِرة إلى السياسات السكانية القديمة في الصين، مشيرة إلى أن البلاد كانت قد تبنّت في فترات لاحقة سياسة لتحديد النسل، في محاولة لتحقيق التوازن بين الموارد وعدد السكان.
ثم انتقلت الدكتورة وي تشي رونغ إلى الحديث عن الاختراعات الصينية القديمة، والتي تعد من أعظم ما قدمته الحضارة الإنسانية، موضحة أن فترة الربيع والخريف والدول المتحاربة شهدت تطورات علمية مهمة، تلتها فترة أسرة هان الشرقية في القرن الثالث ميلادياً، ثم أسرة سونغ الشمالية التي شهدت اختراع الطباعة بالحروف المتحركة، إلى جانب اختراع البوصلة وغيرها من الابتكارات التي ساهمت في ازدهار العلوم والتجارة.
وأشارت إلى أن الصين حققت التوحيد عام 221 قبل الميلاد على يد الإمبراطور تشين شي هوانغ، الذي أنهى الحروب الانفصالية بين الأمراء، وساهم في توحيد الكتابة والعملة والأوزان والمقاييس، مما عزز التبادل الاقتصادي والثقافي بين مختلف المناطق والمجموعات العرقية، وأسهم في تعزيز وحدة البلاد.
كما استعرضت قصة إنسانية مؤثرة مرتبطة بتاريخ سور الصين العظيم، عن امرأة تركت بيتها لتبحث عن زوجها الذي شارك في بناء السور، وعندما علمت بوفاته جلست قرب الجدار وانهارت باكية، لتخلّد تلك القصة رمز التضحية والإخلاص في الذاكرة الشعبية الصينية.
وتحدثت كذلك عن ضريح تشين شي هوانغ، باعتباره أحد أبرز الشواهد الأثرية التي تجسد عظمة الحضارة الصينية، مشيرة إلى أن توحيد الصين في عهده مهّد الطريق لنهضتها الاقتصادية اللاحقة ومكانتها العالمية.
كما تناولت الدكتورة وي تشي رونغ الرحلات السبع للمستكشف الصيني الشهير “شنغ خه” إلى الغرب خلال الفترة ما بين 1405 و1433، والتي ساهمت في تعزيز التبادل التجاري والثقافي بين الصين ودول العالم، إلى جانب الإشارة إلى طريق الحرير البري والبحري الذي ربط الشرق بالغرب وشكّل أحد أهم جسور الحضارة والتعاون الإنساني.
وأكدت المحاضِرة أن هدف هذه الندوة هو تصحيح الصورة النمطية عن الصين، وإبراز عمقها الثقافي والإنساني والحضاري الذي يمتد لآلاف السنين.
ثم تناولت مرحلة انحطاط أسرة تشينغ، مشيرة إلى أن القوى الإمبريالية بدأت غزو الصين بين عامي 1840 و1856، حيث اندلعت حرب الأفيون التي تسببت في نهب الثروات وتدمير الثقافة الوطنية.
وأوضحت أن الصين أُجبرت آنذاك على توقيع معاهدات غير متكافئة مع إحدى عشرة دولة غربية عام 1901، بلغت قيمة التعويضات فيها 980 مليون تايل من الفضة، كما تم السماح لتلك الدول بإرسال قوات لحماية مواقع استراتيجية داخل الصين.
وأشارت الدكتورة وي إلى أن هذا الواقع الاستعماري المرير كان دافعاً لولادة الحزب الشيوعي الصيني عام 1921، الذي قاد الشعب نحو مقاومة العدوان الأجنبي والسعي للتحرير الوطني، وصولاً إلى حرب التحرير (1945 – 1949) التي أعقبت الحرب ضد اليابان (1931 – 1945)، والتي راح ضحيتها أكثر من 30 مليون عسكري ومدني.
وأضافت أن هذه التضحيات العظيمة مهّدت لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام 1949 على يد الزعيم ماو تسي تونغ، لتبدأ الصين بعدها مرحلة جديدة من البناء والتنمية، كان من أبرز محطاتها إطلاق الخطة الخمسية الأولى للتنمية الاقتصادية الوطنية (1953 – 1957)، والتي شملت تأسيس قاعدة صناعية في ثلاث مقاطعات رئيسية، إيذاناً ببداية التحول الاقتصادي الحديث للصين.
واختتمت الدكتورة وي تشي رونغ محاضرتها بالإشارة إلى سياسة الإصلاح والانفتاح التي أطلقها دنغ شياو بينغ، والتي نقلت الصين إلى مرحلة جديدة من التطور والانفتاح على العالم، وأرست دعائم نموذج صيني فريد في التنمية يجمع بين الحفاظ على الهوية والتحديث الشامل.
وتبرز تجربة التحديث الصيني اليوم كأحد النماذج الملهمة في العالم النامي، حيث استطاعت الصين أن تمزج بين الأصالة والتجديد، وأن توظف إرثها الحضاري العريق في خدمة نهضتها المعاصرة.
وقد انعكست هذه الرؤية بوضوح على علاقاتها مع الدول العربية، التي تنظر إلى الصين كشريك استراتيجي يقوم على مبادئ الاحترام المتبادل والتعاون المتكافئ.
كما ساهمت مبادرة “الحزام والطريق” في تعميق الروابط الاقتصادية والثقافية بين الجانبين، لتصبح الصين اليوم أحد أهم الشركاء التجاريين للعالم العربي، وشريكًا في مشروعات تنموية كبرى تمثل امتدادًا طبيعيًا لطريق الحرير التاريخي، وتجسيدًا عمليًا لجوهر التحديث الصيني القائم على الانفتاح والازدهار المشترك.