لا يعترف النظام الحالي في مصر بالوزير السياسي.. ولا بأهمية ان تكون له خلفية سياسية أو حتى فكرية أو ثقافية. ليست هذه أوراق اعتماده. يصلح هذا في قيادة الجيوش ولكنه لايصلح في رئاسات الوزارات ولا عند اختيار الوزير لتولي إحدى الوزارات. الوزراء الذين تربوا سياسيا وفكريًا مختلفون. يكتبون بقدرة هائلة ويعبرون عن أنفسهم بوضوح تام، وياسلام لو كانوا ديمقراطيين، يسمعون صوت الآخر ويناقشونه، ولن يقولوا لمرؤوسيهم "أطيعوا الأوامر ولو غلط"! الضبط والربط والانضباط العسكري مُهِمٌ ، سواء في ميدان المعركة أو خارجها. لكن الوزير الذي يأتي من مدرسة سياسية يتمتع بصفات كثيرة، أولها الحلم.. الحلم أنواع، لكن أهم نوعين من الحلم هو الحنو على الرعية، خاصة عامة الشعب، الذين ينشدون في المسؤول عموما أن يسند ظهورهم، فما أوجع وأقسى مرارة وعذاب كسر الظهر في مصر، وغير مصر. من الصعب عندنا بل من الموجع ألا يكون للمرء "ظهر" يسنده.
النوع الثاني من الحلم.. هو حلم مرتبط بـ"بكره"! سنوات كثيرة مضت والناس لايعذبهم أكثر من هذا السؤال الذي لا إجابة له: "هوه بكره فيه إيه؟" "ياتري بكره مخبي لنا إيه"؟! الناس طيبهم وشريرهم يسآلون هذا السؤال.. غنيهم يخاف على ثروته، وفقيرهم يخشى مزيدا من انكشاف الستر عنه، فلا يقوى على تلبية متطلبات معركته مع الحياة! عذاب ما بعده عذاب !
الحلم مرتبط بالخيال.. يحلم الإنسان بالبيت الآمن.. بالمستقبل.. بالقدرة على الالتحاق بعمل، والقيام بواجباته حتى يستطيع المحافظة على أوضاعه، ليلبي احتياجاته الإنسانية، فيتزوج ويفتح بيتا وينجب أطفالًا ويسعد أهله!
في الزمن الحالي تغيرت الأوضاع، فالأب يقتل أسرته.. يذبح أطفاله وزوجته ثم ينتحر تحت عجلات قطار! يشعل النيران في بيته الذي حلم به يومًا، ثم هزم الحلم! من المؤسف أن مثل هذه الظواهر المتكررة لم تعد تجد المراكز العلمية والبحثية والخبرات الأكاديمية التي تخضعها للدراسة، فتعرف اسبابها وتخرج بـ"ضوء من آخر النفق" ينير الطريق أمام الآخرين. فقدنا مراكز بحثية وعلميّة كثيرة وانسحب علماؤها في هدوء من المشاركة المجتمعية، أو جرفت الحياة منهم بالموت أو بالهجرة إلى بلدان أخرى يلقون فيها حياة مختلفة!
الحلم.. يعني التطلع إلى المستقبل.. وعندنا الآية معكوسة، الحلم هو النظر إلى الماضي، والكل يقول "ياريت اللي جرى ماكان"! مأساة حقيقية أن يعيش الناس في الماضي ولايجدون من يقودهم إلى "بكرة" بأمان واطمئنان .كيف يمكن تقبل هذه المعادلة بكل ما فيها من شراسة وقسوة؟ دول متخمة بالسعادة والديمقراطية والخيال ودول فقيرة في الطموح والخيال ولا يمكنها أن تحلم إلا برجوع الزمن إلى الوراء، وليس التسابق في المضي قدما إلى الأمام؟!
من أين يمكن للناس أن يحلموا بالمستقبل؟ من يقول لأولادنا اليوم في مدارسنا إن من طلب العلا سهر الليالي؟ بالعكس من يطلب العلا هذه الأيام لابد أن تكون لديه إمكانيات مادية أو إجتماعية تسند ظهره حتى لا ينكسر أمام ضراوة محن الأيام والأزمان. لم يعد أحد يعلم الأجيال الجديدة قيم العمل والتفاني والإخلاص والنزاهة والشرف.. باتت قيمًا من الماضي يستحيل الوفاء بها. الأسهل - أو الأكثر جدوى منها - أن تحلم الأمهات والآباء بأن يشتري إبنهم توكتوك "ياكل منه عيش".. في نظرهم اليوم التوكتوك بيأكل بغاشة وبقلاوة!!
الحلم ليس أن يبقى - أو يحاول - مسؤول الإبقاء على الأوضاع كما هي، فلا تقدم ولا فكر ولا تحضر ولا قدرة على تغيير الأوضاع. المسؤول عن الناس لا يمكن أن يفكر في "إسكات" الأوضاع والسيطرة عليها بما يبدو أنه في قدرة الناس. تفكيره ينصب على أنهم ماداموا يحتملون - من دون أن يبدوا أو يمارسوا حق الرفض - رفع الأسعار فلترتفع! من أين للناس احتمال كل هذا القدر المخيف من الأسعار الفاتكة بسلام كل عقل وكل نفس؟ المسكنات اليومية بالإعلام والمانشيتات الزائفة - مثل مانشيت الأهرام العجيب قبل أيام "مخزون القمح مطمئن"! - لاتجدي. لأنها تجعل الناس يعيشون في الماضي ويتطلعون إليه كحلم وحيد لإنقاذهم مما هم فيه من ضنك.
لا تستهينوا بالحلم.. فالحلم أمم قناة السويس في ٥٦، وبني السد العالي في الستينات، وحقق العبور المستحيل إلى الضفة الأخري من قناة السويس. تخلينا عن الحلم مع بدء عصر "اللي ما اغتناش في عهدي مش هايغتني تاني" وياليت ما جرى ما كان! سقطت اعتي دور بناء الإنسان في الفخ، فراح الطلاب يهجرون المدارس وينجحون بالغش، حلت أفلام المقاولات - على أيدي تجار الخيش والخردة - وانتشرت قيم الوهابيين وأساليبهم في التدين الشكلي، وتفاقمت الطائفية واندلع الارهاب ولعلع البارود والرصاص في شوارع مصر.. من القاهرة إلى الأقصر ومنهما إلى أسيوط.
الحلم المفقود جعل مقولة "اللي معاه قرش يساوى قرش"! ضاعت قيمة الإنسان، عندما ضيعنا التعليم، واغلقنا المسارح وشاعت أفلام المقاولات وذهبت إلى غير رجعة الأفكار المستنيرة عند أمثال خالد محمد خالد وخليل عبد الكريم ومصطفي عاصي وسعيد العشماوي وزكي نجيب محمود، وحل محلها قيم أسامة رشدي وعاصم عبدالماجد وقتلة الشيخ الذهبي.
قيم جديدة مؤسفة ظهرت مع ظهور كلمات من نوع "خلي بالك من إسكندرية ياحاج رشاد".. ولم يعد هناك إلا قلة من الناس"فيهم الرمق".. يسقطوا قانون ٩٣ (بالسيطرة على نقابة الصحفيين نموذجًا) أو يعتصموا في مكتب وزير الثقافة حتى يذهب مع جماعته إلى الجحيم!
أغلب الناس فقدوا قدرتهم على التماسك في مواجهة الأخلاق الشريرة.. وهزمتهم الحاجة إلى المال، فنحن في عصر الفلوس.. الناس تفعل أي شيء، حتى رجل الأعمال ينظر إلى الجنيه اليتيم الذي في جيبك، كيف يأخذه منك!
انتشرت قيم الابتزاز والسرقة والدعارة والمحسوبية والشللية، وتفكك المجتمع المتماسك، وكل واحد "بيلقط رزقه" إنشالله بالملابس الفاضحة والتعري والنكات الجنسية، كما في الـ"تيك توك"، حتى الرقص الشرقي البديع.. الفن المصري العريق أهين وابتذل، وأصبح التعري وليس التعبير هو الأصل!
الدنيا "مبقتش ربيع ولا الجو بديع "ولا يحزنون. المصيبة أن كل هذه العيوب - أمام أفواه الأرانب المفتوحة كل صباح - لم تجد من يتصدى لها، بالعكس بدلا من زراعة القمح بكثافة والأرز باستمرار، وجدنا أنفسنا نستورد القمح وأحيانا تداهمنا مشكلة اختفاء الأرز بفعل فاعل، ولكننا نتفنن في زراعة المانجو بكل أنواعه والكنتالوب وفواكه أخرى لاتقيم أوّدَ البني آدم. لست ضد هذه الزراعات التي تقدم للقادرين عليها ثمارًا محببة ومفضلة: الأفوكادو والدراجون فروت والباشون فروت و فاكهة الثعبان (السناك فروت) واللونجان والكاراميولا وغيرها، مما لا يسمع عنه مجتمع الـ٩٩ بالمائة من غالبية الفقراء في المجتمع المصري، هذه كلها زراعات تلبي رغبات المجتمع المخملي المنفصل تماما عن واقعنا التعس!
الحلم المفقود هو أن تجد مسؤولا لديه من الخيال والطموح ما يجعله يبتكر وسائل جديدة لمقاومة الفقر والجوع والقبح في مجتمعنا. هو من لديه القدرة على تغيير حياة الناس، ولا يستسلم أمام تحديات العصر، فلديه إمكانية أن يقود الناس نحو التغيير. يهتم بحالة عزوف الطلاب عن ارتياد المدارس، ويجد حلا لتفاقم مشكلة المدرسين الذين لم يعودوا يقدمون للحالة التعليمية مايعيد لها مجدها الضائع.. يرد عن المستقبل غائلة العودة إلى الكتاتيب فلم تعد تتواكب مع العصر، رغم أنها شيدت عقولنا في الأزمنة الماضية، ويرفض توجهات الوزير الذي يقرر من دون حوار مجتمعي أن يصبح "الدين" مادة نجاح ورسوب، فلا يقل الحد الأدنى للنجاح فيها عن ٧٠ بالمائة، من دون أن يكون لهذا الجهد أي أثر على المجموع!
فماذا عن الطلاب المسيحيين؟ والمسيحيون طوائف: أرثوذوكس وكاثوليك وبروتستانت.. من سيدرس لهؤلاء المختلفين دينيا بشكل لا يعرفه إلا المسيحيون أنفسهم؟ وماذا لو كان الطالب المسلم شيعيًا وسئل أسئلة عن المذهب السني؟
رئيس وزراء اللحظة الراهنة يجب ان تكون لديه رؤية مجتمعية شاملة وإجابة صحيحة - تقريبا - عن كل اسئلة اللحظة الراهنة.. بمافيها أسئلة التعليم والصحة والاقتصاد والانتخابات ودور الانعقاد، ولديه رغبة حقيقية في الذهاب إلى برلمان منتخب انتخابا حقيقيا يمثل الشعب، ليدلي ببيان عن الحالة العامة للبلاد.. شأن كل رؤساء الوزارات العظام … وللحديث بقية
-----------------------------
بقلم: محمود الشربيني