لم يعد الحديث عن الروبوتات في الصين مقتصرًا على الخيال العلمي أو الأبحاث الأكاديمية، بل أصبح واقعًا ملموسًا تتجسد معالمه في مركز بكين لصناعة الروبوتات، الذي أُنشئ عام 2023 ليشكل أحد أهم أعمدة الاقتصاد المعرفي ويجسد التوجه الصيني نحو بناء مجتمع صناعي متطور قائم على الابتكار.
وعلى وقع ذلك، زار وفد صحفي دولي المنطقة الاقتصادية الصناعية في بكين، حيث اطلع على أحدث المشاريع التكنولوجية ومجالات الاستثمار المستقبلية، في إطار برنامج التبادل الإعلامي والثقافي، وخلال الزيارة، وقف الصحفيون على حجم التحولات الكبرى التي تقودها الصين في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، وكيفية دمجها في القطاعات الصناعية والخدمية.
ومنذ تأسيسه، برز المركز كمنصة إقليمية متكاملة تجمع بين الصناعة والتكنولوجيا والبحث والتطوير، حيث يحتضن أكثر من 100 ألف كيان اقتصادي، من بينها ما يزيد على 2300 شركة متخصصة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والابتكار الصناعي. ولا يقتصر نشاطه على تطوير الروبوتات فقط، بل يمتد إلى مجالات حيوية مثل صناعة السيارات الكهربائية والمبادرات الطبية الحديثة.
وأبرز ما كشف عنه مسؤولو المركز خلال الجولة، هو إطلاق “الحديقة الدولية للاستثمار الطبي” الموجهة لتطوير اللقاحات والأدوية، إضافة إلى إنشاء منصات ذكية تدعم البنية التحتية للابتكار.
كما أنشأ المركز ساحة اختبار ضخمة للروبوتات تمتد على مساحة 600 كيلومتر مربع، أي ما يعادل ربع مساحة الصين، وتتيح للشركات اختبار تقنياتها في بيئة محاكاة واقعية.
ولم يتوقف التطوير عند هذا الحد، إذ ابتكر المركز آليات تمويل جديدة لدعم الشركات الناشئة، أبرزها صندوق استثماري متخصص في دفع عجلة الابتكار التكنولوجي.
وضمن جهوده لتعزيز بيئة الأعمال، أطلق المركز منصة حكومية ذكية هدفها تبسيط الإجراءات وتقليص الروتين الإداري. وقد أسهمت هذه المنصة في خفض زمن الحصول على التراخيص بنسبة 70%، ما جعل بيئة الاستثمار أكثر كفاءة وجاذبية.
وتعتمد المنصة على نماذج متقدمة من الذكاء الاصطناعي، حيث جرى اعتماد خمسة نماذج صينية رائدة لتقديم خدمات ذكية تغطي احتياجات المؤسسات داخل الصين وخارجها.
وفيما يتعلق بانعكاسات الروبوتات على فرص العمل، أكد مسؤولو المركز أن الهدف ليس الاستغناء عن الإنسان، بل خلق وظائف جديدة وتطوير حلول تقنية لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مثل دعم الزراعة والطب ورعاية المسنين.
وأوضحوا أن جميع الروبوتات يتم تصميمها وضبط أنظمتها داخل المركز وفق معايير أخلاقية صارمة وأنظمة تحكم دقيقة، رغم أن بعضها لا يزال في المرحلة التجريبية.
ويضم المركز أكبر شركة عالمية متخصصة في تصنيع السيارات والحافلات الكهربائية ذاتية القيادة، والتي يتم التحكم فيها عبر أنظمة روبوتية متطورة.
ومن اللافت أن هذه المركبات لم تسجل أي حادث منذ بدء تشغيلها، بفضل أنظمتها عالية الجودة وامتثالها لقواعد المرور، إضافة إلى كونها صديقة للبيئة.
كما تلعب الروبوتات دورًا محوريًا في مجالات مكافحة الحرائق والإنقاذ في الكوارث الطبيعية، إلى جانب مكافحة المخدرات وتقديم الرعاية الصحية للمسنين.
ولا يقتصر التميز على القطاع الصناعي وحده، إذ يضم المركز أكبر مطعم في العالم يعمل بالكامل بواسطة الروبوتات، ما يجعله مثالًا حيًا على التحول نحو مجتمع آلي متكامل.
ويمتد المركز على مساحة تعادل ربع مساحة العاصمة الصينية بكين، ليصبح بحق “مدينة الروبوتات” التي تحتضن تقنيات الجيل السابع.
وبفضل هذه الجهود المتواصلة، نجح مركز بكين للروبوتات في ترسيخ مكانته على خارطة الابتكار العالمي، ليصبح وجهة رئيسية للشركات والباحثين، ومختبرًا حيًا لرسم ملامح المستقبل الصناعي.
وأكد المسؤولون على أن التجربة الصينية في هذا المجال تعكس رؤية استراتيجية تستهدف بناء اقتصاد قائم على الابتكار والمعرفة. وفي خطوة تعكس تسارع وتيرة الابتكار التكنولوجي في الصين، برز مركز بكين للروبوتات الإنسانية للابتكار، الذي تأسس في نوفمبر 2023، كأول شركة وطنية متكاملة تجمع بين تقنيات الذكاء المتجسد في الروبوتات وتطوير البرمجيات والأجهزة على نطاق واسع.
ويقود المركز، بإشراف مدير علامته التجارية وي جياشينغ، ثورة جديدة في عالم الروبوتات عبر منصات مبتكرة تجمع بين الكفاءة والقدرة على التكيف مع مختلف البيئات.
ويركز المركز على تطوير منصتين رئيسيتين: “جوشن تيانغونغ” (具身天工) وهو منصة عامة للروبوتات الذكية المتجسدة، و“هوي سي كايوو” (慧思开物) وهي منصة ذكية شاملة تجمع بين تعدد القدرات
وتعدد الأجهزة في آن واحد. ففي مارس 2025، أطلق المركز منصة “هوي سي كايوو” كأول منظومة عالمية قادرة على تشغيل أكثر من روبوت عبر “دماغ واحد”، بما يتيح انتقال الروبوتات من مجرد تنفيذ مهام محدودة إلى اتخاذ قرارات مستقلة في بيئات معقدة، مع فهم متكامل للمهام وتنفيذها بكفاءة عالية.
أما منصة “جوشن تيانغونغ 2.0”، فقد تميزت بتصميم متطور يشمل نظامًا مزدوجًا لتبديل البطاريات بسرعة، وأذرع صناعية قوية، وأرجل مرنة بكامل درجات الحركة، مما منحها قدرات تشغيلية تفوقت على كثير من الروبوتات التقليدية.
ولم يقتصر التميز على الابتكار الصناعي، بل امتد إلى الساحة الرياضية. ففي أبريل 2025، شارك الروبوت “جوشن تيانغونغ” في نصف ماراثون بكين (21.09 كلم)، مسجلاً زمنًا قدره ساعتان و40 دقيقة و42 ثانية، ليحصد لقب أول روبوت إنساني في العالم يفوز ببطولة نصف ماراثون ويحطم الرقم القياسي العالمي.
وفي أغسطس 2025، تألق الروبوت في أولمبياد الروبوتات الإنسانية العالمية، حيث أحرز المركز الأول في سباق 100 متر، وحل وصيفًا في سباقات 400 متر و1500 متر، محققًا إنجازًا رياضيًا غير مسبوق، وأثبت قدرته على التكيف مع البيئات المعقدة، والعمل باستقرار وموثوقية على المدى الطويل.
وإلى جانب الرياضة، حقق المركز إنجازات عملية في منافسات عالمية أخرى، حيث حصد 1 ذهبية و3 فضيات وبرونزية في مجالات تشمل فرز المواد، ونقلها، وخدمات الضيافة والفنادق، ليؤكد قدرته على الانتقال بسلاسة من التصنيع الصناعي إلى الخدمات المنزلية والتجارية. وبهذا، تتسع دائرة تطبيقات الروبوتات الإنسانية لتشمل مجالات الصناعة، اللوجستيات، الإنقاذ، التصنيع، الخدمات التجارية، والرعاية الأسرية، بما يعزز مفهوم “القوة الإنتاجية الجديدة” التي تقود الثورة الصناعية المقبلة.
ويؤكد مسؤولو المركز أن المرحلة المقبلة ستشهد تعزيز الدمج بين التقنية والمنتج والمعايير الصناعية، بهدف تسريع إدماج الروبوتات الإنسانية في مختلف القطاعات، وصولًا إلى دخولها كل بيت، لتصبح جزءًا من الحياة اليومية للأفراد، وقوة دافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الصين والعالم.