إذا دققنا النظر إلى ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من البيت الأبيض، في حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سنجد أنفسنا أمام لحظة فارقة لا تقل خطورة عن تلك التي جرت قبل أكثر من قرن حين صدر وعد بلفور.
هذه المرة نحن لا نواجه مشروعًا إسرائيليًا يريد الأرض بلا أصحابها، بل مشروع غربي متكامل ـ أميركي بريطاني بالدرجة الأولى ـ يلبس ثوبًا إسرائيليًا، ويستهدف ليس فقط اقتلاع الفلسطيني من أرضه، وإنما اقتلاع فكرة المقاومة نفسها من جذورها وإعادة صياغة المنطقة لتظل آمنة للهيمنة لعقود طويلة.
الخطة التي أعلنها ترامب ليست في حقيقتها "تسوية سياسية"، وهي أبعد ما تكون عما يسميه "السلام التاريخي"، الخطة هي صياغة جديدة لفرض الهزيمة على شعب أعزل، عبر رؤية تتجاوز جوهر القضية الفلسطينية وتطعنها في قلبها.
لم يَعُد الهدف حدودًا أو معابر أو دولة منزوعة السيادة، بل إغلاق الملف برمته لصالح تثبيت إسرائيل كقوة مركزية في الشرق الأوسط، وإخضاع المنطقة كلها لمعادلات الغرب.
وفي سبيل ذلك، بدأ ترامب مشروعه بالحصول على دعم بعض الدول العربية المؤثرة، ومعها دول إسلامية كتركيا، ما يضاعف الضغط على حماس ويقلص أمامها فرص المناورة أو التنصل من مآلات الخطة.
أمام هذا المشهد، تقف حماس على مفترق طرق بالغ الحساسية. فالقبول المباشر بالخطة يعني انتحارًا سياسيًا وفكريًا، ليس للحركة وحدها بل لفكرة المقاومة برمتها. والرفض الصاخب من دون حسابات واقعية، سيقلب الطاولة كلها عليها ويضع الفلسطينيين في مرمى عاصفة إقليمية ودولية لا قِبَل لهم بها.
إننا إذن أمام خيارات صعبة، بل مستحيلة في بعض وجوهها.
الخيار الأول أمام حماس هو الرفض المباشر، وهو خيار ينسجم مع خطابها التاريخي لكنه يفتح الباب أمام عزلتها إقليميًا ودوليًا، ويتيح لإسرائيل وحلفائها تصويرها كمعطل دائم للحلول، حتى لو كانت تلك الحلول على حساب الحق الفلسطيني ذاته.
الخيار الثاني هو القبول الصريح، وهو بمثابة تسليم يساوي نهاية الدور والمشروع معًا.
أما الخيار الثالث، وهو الأكثر مرونة، فيتمثل في موقف وسط: قبول هدنة إنسانية أو سياسية محدودة، لكنها مشروطة بشروط عالية السقف تجعل تنفيذها أمرًا شبه مستحيل من جانب الاحتلال، وفي الوقت ذاته تحفظ للحركة موقعها كقوة مقاومة لا تتنازل عن ثوابتها.
صياغة هذا الخيار الوسط تحتاج إلى لغة دقيقة، لأن الخطأ في اختيار العبارة قد يكون مكلفًا بقدر كلفة القرار نفسه.
الحديث عن "رفض مشروط" يمنح خصوم الحركة ذريعة إضافية للهجوم عليها، والحديث عن "قبول مشروط" يعرّضها لفقدان شرعية وجودها.
الصياغة الأكثر ملاءمة هي تلك التي تضع الحركة في خانة "التعاطي المسؤول المشروط بتحقيق الحقوق الوطنية"، أي أن الحركة منفتحة على أي مبادرة، لكنها لا تقبل إلا بما يضمن رفع الحصار، انسحاب الاحتلال، ضمان حق العودة، وعدم القبول بفصل غزة عن الضفة، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيرهـ وإقامة دولته الحرة المستقلة.
بهذا تبقى حماس في موقعها الطبيعي: لا هي تُسقِط فكرة المقاومة، ولا هي تمنح خصومها فرصة اتهامها بالتعطيل، وتترك الخطة الغربية الإسرائيلية تواجه استحالة تطبيقها من الداخل.
إنها مباراة دقيقة على حافة الخطر، لكنها الطريقة الوحيدة التي تتيح للحركة أن تحافظ على جوهرها المقاوم، وفي الوقت نفسه أن تُفلت من فخ الرفض القاطع أو القبول الكامل.
وبذلك يستمر الصراع، لا كمعركة عابرة على حدود غزة، وإنما كجزء من مواجهة تاريخية طويلة بدأت مع وعد بلفور، وما زالت تتجدد كل مرة بثوب جديد، ومشروع جديد، لكنه يظل في جوهره محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، وإخراجها من معادلة التاريخ.
----------------------------
بقلم: محمد حماد