فرحنا بلحظة خروج الوفود العربية والإسلامية من قاعة الأمم المتحدة عندما تقدم نتنياهو لإلقاء خطابه، وهللنا عندما أعلنت أكثر من 150 دولة اعترافها بالدولة الفلسطينية، مع أن معظمها معترف بها قبل سنوات، لكن انضمام العديد من الدول الغربية وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا، لقائمة المعترفين بالدولة الفلسطينية خلال مؤتمر حل الدولتين بنيويورك أعطى الاعتراف قوة وزخما.
وبالتزامن مع الفرح والتهليل كانت الآليات العسكرية الإسرائيلية تقتحم أحياء مدينة غزة وتدمر مبانيها الشاهقة بضغطة زر، وتضيف للشهداء والمصابين حصيلة يومية كبيرة تؤكد أن نتنياهو مستمر فى حرب الإبادة لاستكمال خطته لتدمير المدينة وتسويتها بالأرض، مثلما فعل فى باقى القطاع على مدار عامين كاملين، وأن تهجير كافة سكان القطاع نحو الجنوب لم يعد خطا أحمر بل أصبح مسألة وقت.
عندما أعلنت بريطانيا اعترافها بالدولة الفلسطينية، رأينا فى ذلك الاعتراف تكفيرا لذنب ارتكبته منذ أكثر من قرن عندما أصدرت وعد بلفور عام 1917 الذى قضى بتأسيس وطن قومي لليهود في أرض فلسطين، وقد سعت بريطانيا لتنفيذ الوعد خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث سهلت هجرة اليهود وتهجير السكان الأصليين من أراضيهم وتطوير المؤسسات الصهيونية وصولا إلى قيام دولة إسرائيل عام 1948.
عادت بريطانيا للظهور فى المشهد من جديد من خلال مسارين: المسار الأول يتمثل فى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حيث تم رفع العلم الفلسطينى على مبنى مقر البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في لندن فى 22 سبتمبر، لكنه كان اعترافا مشروطا، ومثلما يقول المثل الشهير "الشيطان يكمن في التفاصيل"
شروط الاعتراف بالدولة الفلسطينية
حددت بريطانيا ثلاثة شروط على السلطة الفلسطينية الالتزام بها قبل أن تمنحها الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية أو إتمام أي حل قائم على أساس الدولتين، الشرط الأول يتعلق بوقف ما أسمته بسياسة "الدفع للقتل" والمتمثل فى توقف السلطة الفلسطينية عن دفع رواتب للسجناء في السجون الإسرائيلية، ورواتب رعاية اجتماعية لأسر الشهداء الفلسطينيين الذين قتلوا في هجمات على الإسرائيليين بحجة أن هذه الرواتب تمثل حافزا للفلسطينيين لحمل السلاح ضد إسرائيل وقيامهم بالمزيد من هذه العمليات الاستشهادية التى تعتبرها بريطانيا عمليات "إرهابية".
أما الشرط الثاني فهو إصلاح الكتب المدرسية والمناهج التعليمية التي تعتبر معادية للسامية! فى مسعى منها لتهدئة المخاوف الإسرائيلية نتيجة تزايد هذا العداء بعد حرب الإبادة التى تخوضها إسرائيل فى غزة، وقد أعرب الكيان الصهيوني عن مخاوفه من استخدام الكتب المدرسية لتعزيز التحريض من خلال المحتوى والصور المعادية للسامية، متناسيا أن ما أقدموا عليه من عمليات قتل وترويع وهدم وإبادة ضد الأطفال والنساء والشيوخ على مدار عامين كاملين وفر مادة إعلامية حية لعشرات السنين يمكن الرجوع إليها فى أى وقت ، وأن المناهج الدراسية لم تعد فى حاجة لتذكير التلاميذ بمعاداة الصهاينة، فقد انتشر هذا العداء بين الأجيال الصاعدة فى العالم كله، ومهما حاولوا تجميل صورة إسرائيل بتغيير المناهج الدراسية فإن صورتها الذهنية القبيحة كدولة احتلال واستيطان مجرمة ستظل فى ذاكرة ملايين التلاميذ الفلسطينيين والعرب كما هى بلا رتوش ولا تجميل.
أما الشرط الثالث فهو إجراء السلطة الفلسطينية إصلاحات سياسية وانتخابات جديدة قبل أن تفتح بريطانيا سفارة فلسطينية في القدس الشرقية أو توقع على المعاهدات الدولية، ويتضمن هذا الشرط ضمان عدم قيام حماس، بأى دور مستقبلي في حكم الدولة الفلسطينية. والتى وصفتها بريطانيا ب "الجماعة الإرهابية التي تقف وراء الفظائع التي وقعت في السابع من أكتوبر."
عودة تونى بلير للمشهد العربى
أما المسار الثانى فيمثله عودة تونى بلير للظهور فى صدارة الأحداث والخطط المتعلقة بترتيبات الأوضاع فى غزة بعد انتهاء الحرب.
بلير الذى شاهدنا اعتذاره للعراقيين فى 2016 على مشاركته فى غزو وتدمير العراق بذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل، وواجه انتقادات شديدة فى بلاده بعد أن اتضح أن التقديرات المخابراتية وقت الذهاب للحرب كانت خاطئة، وأن عواقب الغزو لم تكن وردية كما صورها المشاركون فى الغزو، بل كانت أكثر عدائية وامتدادا ودموية.
هذا الشخص نفسه هو الذى يطرح الآن خطة عرفت باسمه "خطة توني بلير" لإدارة غزة ما بعد الحرب بعد دراسة مستفيضة من معهد تونى بلير للتغيير ، الذى أسسه عام 2017 بعد عام واحد من اعتذاره، وكأنه يعيد تقديم نفسه للمنطقة وللعالم من جديد بعد غسل يديه من جرائم بريطانيا أثناء غزوها للعراق، وأشهرها على الإطلاق جريمة التعذيب فى سجن أبو غريب التى لن يمحو صورتها من ذاكرة العراقيين والعرب أى اعتذار .
ووفقا لصحيفة الاندبندنت البريطانية فقد شجع ترامب توني بلير على قيادة جهود إقليمية لدعم خطة إعادة بناء القطاع من خلال ترؤسه لهيئة انتقالية تُعرف باسم "السلطة الدولية الانتقالية لغزة" (GITA)، من المرجح أن تدير القطاع لفترة انتقالية قد تمتد حتى خمس سنوات، قبل أن تُسلّم السلطة تدريجياً إلى السلطة الفلسطينية، وتواجه خطة بلير معارضة من حماس التى لن يكون لها أى دور فى حكم غزة، كما تواجه موافقة مشروطة من السلطة الفلسطينية التى أبدت استعدادها للانخراط فى الخطة بحسن نية، مع الوضع فى الاعتبار أن غزة جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، ولن تقبل بأي خطة تُعاملها كاستثمار عقاري أو مالي لشركات أجنبية دون وجود الفلسطينيين.
من خلال الكشف عن هذين المسارين يتضح لنا أن بريطانيا وما قامت به من بروباجندا سبقت اعترافها بالدولة الفلسطينية، كانت تجهز مسرح الأحداث لما هو أهم بكثير من هذا الاعتراف.
الغريب أن الولايات المتحدة كانت الأصدق فى كشف نواياها حيث وصفت اعتراف حلفائها من الدول الغربية بالدولة الفلسطينية بأنه "مجرد تمثيلية"، وأعلنت أولوياتها بوضوح وهى نفس أهداف الدول الغربية، دولة فلسطينية منزوعة السلاح والإرادة، لا تُشكّل تهديدًا لإسرائيل، ولا مكان فيها للمقاومة المسلحة و الاعتراف بها سيكون جنبًا إلى جنب مع "الدعم الثابت" لأمن إسرائيل وضمان تفوقها على كافة الدول العربية، هذا ما يريده الغرب، أما ما تريده إسرائيل فهو إسرائيل الكبرى التى لا تعترف بدولة فلسطينية، وتسعى لضم المزيد من الأراضى وإقامة المزيد من المستوطنات، وهذا بالتأكيد لن يحدث طالما ظلت هناك مقاومة فلسطينية تسعى لتحرير الأرض واستعادة الكرامة الفلسطينية، ومن لم يدرك أن اختفاء المقاومة من المشهد يشكل خطراً كبيراً ليس على القضية الفلسطينية وحدها، بل على المنطقة العربية بأسرها، فهو فى حاجة لإعادة قراءة المشهد من جديد.
----------------------
بقلم: سحر عبدالرحيم