تنطوي المجموعة القصصية "هناك حيث أنا"، للكاتب عبد الله السلايمة، على سرد يطمح إلى تأريخ التحولات الثقافية والروحية لبادية سيناء. ويُعد السلايمة، من أبرز الأصوات الأدبية التي كرّست كتاباتها لتوثيق حياة البدو وثقافة الصحراء، خاصة في منطقة سيناء. تُظهر أعماله التزامًا عميقًا بتصوير الواقع الاجتماعي والسياسي والإنساني لسكان هذه المنطقة؛ مما جعله يُصنَّف ضمن كتّاب "أدب الصحراء" في مصر. تأثرت كتاباته ببيئة البادية التي نشأ فيها؛ مما أضفى على أعماله طابعًا خاصًا، يمزج بين الأصالة والتجديد. أصدر عبدالله السلايمة العديد من الروايات والمجموعات القصصية التي تعكس تجاربه ورؤاه؛ منها المجموعة القصصية الأخيرة "هناك حيث أنا"، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ٢٠٢٥. تُمثّل المجموعة تجربة سردية متميزة، تنبع من عمق البيئة البدوية في سيناء، وتستحضر عناصرها الثقافية والاجتماعية والروحية؛ لتخلق نصوصًا ذات خصوصية في الرؤية واللغة والبناء الفني. يحمل العنوان "هناك حيث أنا" بُعدًا دلاليًّا غنيًا، ومفتوحًا على عدة تأويلات؛ سواء من ناحية اللغة أو من حيث المعنى الفلسفي والوجودي. فـ"هناك" تشير إلى مكان بعيد، بينما تشير "أنا" إلى الذات الحاضرة. يخلق هذا التباعد بين "هناك" و"أنا" مفارقة وتوترًا وجوديًا، وكأن الذات ليست متصالحة مع مكانها. وتوحي "أنا" بأن القصص تدور حول تجارب شخصية أو غيرية، سواء كانت حقيقية أو متخيلة. وتجعلنا "هناك" نتوقع أن تكشف القصص عن الحدود بين الشخصي والغيري، بين الواقع والمتخيل، بين السارد والعالم، أو المكان الذي يمثّل جزءًا من هذا العالم. هذا المكان، الذي سيتضح للقارئ بعد قراءته المجموعة، أن "هناك" تشير إلى "سيناء" كمكان، بينما تشير "أنا" إلى السارد أو الراوي؛ والأدق، تشير إلى الكاتب عبدالله السلايمة نفسه. تضم المجموعة (٢٢) قصة متنوعة. تتناول هذه القصص حياة أهل البادية في سيناء، مُسلطة الضوء على تفاصيل حياتهم اليومية، عاداتهم، وتقاليدهم؛ بأسلوب سردي يكشف الجوانب الإنسانية والثقافية لهذا المجتمع. تتفاوت قصص المجموعة في الطول والبنية والتيمات، لكنها تلتقي جميعًا في فضاء واحد من التأمل في الإنسان ومصيره وتحولاته. يعتمد السلايمة في نصوصه على لغة مكثَّفة، ذات طابع تصويري، فهي تجمع بين السردي الوصفي واللمسة الشعرية، دون أن تقع في الترهل أو الخطابة. كما تتسم البنية السردية بقصر القصص، واعتمادها على “الومضة” التي تقتنص لحظة التحول، أو التوتر، أو الإدراك. تحتل البيئة السيناوية مكانًا مركزيًا في المجموعة؛ لا بوصفها خلفية جغرافية فحسب، بل بوصفها كيانًا حيًّا يفرض إيقاعه على الشخصيات والسرد. الصحراء، الجبل، البدو، الطقوس، والعادات: كلها عناصر تؤسس لعالم متكامل، يحمل خصوصية اجتماعية وثقافية. لكنه، في الوقت ذاته، عالم يعاني التآكل والتحول، نتيجة الضغط الحضاري والمدني.
نجد في قصص مثل "الشاب"، و"الطنيبة"، و"الشيخة نافعة"، تصويرًا لحالات إنسانية مأزومة، تعاني من التهجين الثقافي والانفصال عن الجذور. وهنا يبرز الصراع بين الأصالة والتحديث، بين القيم البدوية التقليدية وموجات الحداثة.
في عدد من النصوص، يتجاوز السرد الطابع الواقعي؛ ليبلغ مستوى من الرمزية، خاصة في قصص مثل "سدرة المنتهى" و"ذاكرة حمراء". في هذه القصص، تُوظّف الرموز الدينية والأسطورية؛ لتقديم رؤية وجودية عن الذات، والقدر، والهوية. وتتخذ القصص شكل سرد ذاتي يتعامل مع القلق، والحنين، والارتباك أمام مفاهيم كبرى؛ مثل الله، والسلطة، والزمن. مثلًا، قصة "سدرة المنتهى" تبدو، للوهلة الأولى، كسيرة ذاتية "غيرية" مقتضبة؛ لكنها تنفتح على أسئلة لاهوتية وفلسفية، تتعلق بالمقدس والنسبي، وتضع القارئ أمام مفارقات التأويل الثقافي.
رغم تنوع القصص من حيث الطول والأسلوب، إلا أن وحدة الموضوع بارزة؛ فكلها تنبع من سؤال جوهري عن الهوية والمكان. تنجح المجموعة في استثمار تنوع الأشكال القصصية، من القصة الومضة، إلى القصة التقليدية ذات الحبكة، إلى القصّ القصير جدًا؛ لتكوين فسيفساء سردية تعكس غنى الحياة وتنوع تجاربها.
"هناك حيث أنا" ليست مجرد مجموعة قصصية؛ بل مشروع سردي متكامل، يطمح إلى تأريخ التحولات الثقافية والروحية لمجتمع يعيش في حالة تماسّ دائمة بين البداوة والحداثة.
يذكر أن الكاتب والشاعر عبد الله السلايمة، يعد من الأصوات البارزة في الأدب المصري "السيناوي"، وهو يعكف على مشروعه الابداعي منذ أكثر من 35 عامًا، فتنوَّعت، عوالمه السردية، بين القصة والرواية والشعر، وهو بالتالي، راكم الكثير من العناوين التي تدفع، تحت إلحاح "الحاجة" إلى لملمة القضايا الإنسانية والوجودية، بفكر خصيب لا يتوخى الحذر، ويطرق أبواب المسكوت عنه، بروية ووعي، وعنف الطامح إلى تجميل الحياة، والتصالح مع البشر من خلال الكتابة، التي، تأخد مناحي عدة، مرة بتعميق الخطاب السردي الكلاسيكي، مصبوغاً بنكهة حداثية، تكشف عورات المجتمعات البدوية، بالهمس والكناية، وليس الكشف ولا التعرية، بحيث تستطيل وتتعالي مروياته، متأرجحة، ما بين لغة وأبنية حداثية، لا تخلو من جزالة يختص بها وحده، ليوسع من مداركه فيما يخص الخطاب السردي ودوافعه، بل وجمالياته، والتي تبدو واضحة في زخرف اللغة والبنية القصصية، أو السردية الروائية، الطامحة، إلى مشاكسة الوجود، وعبثية الحياة، فهو دائمًا، ما ينطلق من حدث واقعي، لتسييره برؤى حسية/ تعبيرية/ رمزية/ مخاتلة، تبحث عن تلاق وتوحد مع القارئ، بل والبحث، والتفتيش، بمبضع جراح، يعي جيدا تلك البيئة السيناوية، التي ولد من رحمها، فسعى لفلترة تلك الوقائع، في عناوين قصصه ورواياته وقصائده. وهكذا جاءت مجموعته القصصية الأحدث "هناك حيث أنا"، صرخة مدوية ضد القهر والعصف والخواء وعبث البشر والأنظمة في محاولات مستميتة للقبض على جوهر ما يسمى بالوطن، عبر بناء رهيف لا يعتمد على الكليشيهات، بقدر اعتماده، على تيارات الحداثة وما بعدها، وجدلية، التفكيك/ البناء، بحثاً، عن معنى الانسجام الفني، القابل للكثير من التأويلات.
--------------------------
بقلم: حسين عبد الرحيم






