حين نعود إلى يوم "ذي قار" الذي حفظه لنا التاريخ، لا نقرأ مجرد مواجهة عسكرية بين العرب والفُرس قبل الإسلام، بل نتأمل درساً عميقاً في الكرامة والوفاء والوحدة في لحظة مصيرية. فقصة النعمان بن المنذر مع كسرى ملك الفرس، ووفاء هانئ بن مسعود بعهده، ثم صمود بني بكر أمام جحافل الفرس، ليست حكاية من الماضي البعيد فحسب، بل مرآة نرى فيها واقعنا العربي اليوم وما يواجهه من صراعات وجودية.
لقد رفض النعمان أن يزوّج ابنته لملك الفرس، وآثر الاحتكام إلى أعراف العرب على أن ينصاع لسطوة القوة. كان موقفه رمزاً للعزة التي لا تُشترى. ولما قتل كسرى النعمان خنقاً بحبل الناقة الأسود، حمل العرب ذلك الحبل فوق رؤوسهم وسمّوه "العِقال" تخليداً لموقف النعمان، كإشارة إلى أن الكبرياء قد يُكلّف الحياة، لكنه يترك أثراً يورّث الأجيال. ثم جاء هانئ بن مسعود ملك الحيرة – إحدى ممالك العرب آنذاك – ليعلّمنا معنى الوفاء، حين صان ودائع النعمان ورفض أن يخون العهد رغم تهديد القوى العظمى في ذلك الزمان.
معركة "ذي قار" لم تكن مجرد صدام مسلح، بل كانت اختباراً للأمة في أشد لحظات ضعفها وتفرقها. ورغم الانقسامات والثارات، توحّد العرب أمام الخطر المشترك، وأطلقوا صيحة مدوّية: "المنية ولا الدنية". وكانت تلك اللحظة أول انتصار للعرب على العجم،
وإذا أسقطنا هذا المشهد على واقعنا العربي المعاصر، نجد أن التاريخ يكرر نفسه في صور مختلفة. فما أشبه الأمس باليوم، حيث تتعرض المنطقة العربية لهيمنة قوى خارجية، وتواجه فلسطين احتلالاً إسرائيلياً لم يكتف باغتصاب الأرض، بل يسعى إلى طمس الهوية وإخضاع الإرادة. وبينما تتنازع الدول العربية فيما بينها، يظل العدو المشترك ماضياً في مشاريعه التوسعية.
الدرس من معركة "ذي قار" أن الخطر الخارجي لا يُواجه إلا بالوحدة، وأن الكرامة لا تُصان إلا بالتضحية، وأن الوفاء بالعهد مع الأمة أهم من الحسابات الفردية أو القبلية أو الفئوية. فعندما اجتمعت العرب آنذاك رغم خلافاتها، حققت نصراً غيّر موازين القوى. واليوم، لا سبيل إلى استعادة فلسطين ولا إلى حماية منطقتنا من التدخلات الإقليمية والدولية إلا بوحدة الموقف العربي وتجاوز الخلافات الداخلية.
إن "العقال" الذي وضعه العرب تخليداً للنعمان، ليس مجرد زي تقليدي، بل رمزٌ لمعنى أعمق: أن الشرف فوق المكاسب، وأن الكبرياء هو ما يخلّد الأمم لا خضوعها. وإذا كنا نفتخر ببطولة ذي قار، فالأجدر أن نجعلها نهجاً حياً لا ذكرى جامدة، وأن نستحضرها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يختلف في جوهره عن غطرسة كسرى قبل قرون.
فالتاريخ لا يكرم إلا أولئك الذين يختارون "الموت في النحور" على الهروب في ظهور الخيل، ولا يرفع إلا الأمم التي تجعل من المروءة والوفاء أساساً لوحدتها. ويوم ذي قار ليس ماضياً نتغنّى به، بل رسالة للمستقبل: أن العرب، متى اجتمعوا، قادرون على قلب الموازين مهما بلغت قوة عدوهم.
--------------------------
بقلم: إبراهيم خالد