شاركت في لقاء تشاوري نظمه مجلس حقوق الإنسان، أمس الثلاثاء، مع عدد من الفاعلين البارزين في منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. يندرج هذا اللقاء ضمن سلسلة لقاءات ينظمها مشروع لبحث التحديات التي يواجهها المجلس، وفي مقدمتها تحدي خفض تصنيفه إلى الفئة (ب)، في 20 نوفمبر 2024، بموجب توصية صادرة عن اللجنة الفرعية للاعتماد التابعة للتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، بخفض تصنيف المجلس المصري، بدعوى عدم التزامه بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما المعايير التي وضعتها مبادئ باريس الصادرة في عام 1993، ومذكرتها الإيضاحية الصادرة في 2017، والتي تتضمن بنودًا تفصيلية تتعلق باستقلالية المجالس الوطنية وولايتها ومواردها وفعاليتها ومدى تعبيرها عن تعددية المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان. الحقيقة أن هذا القرار جاء في وقت كان يتخذ فيه المجلس خطوات لتعزيز فاعليته، لاسيما في فترة ولاية السفيرة مشيرة خطاب، (2021-2025)، والتي أعقبت سنوات صعبة في نشاط المجلس بسبب الأوضاع السياسية العامة في مصر. جاء خفض التصنيف على الأرجح نتيجة انقسام في مجتمع حقوق الإنسان في مصر، عبر عنه ترحيب الجبهة المصرية لحقوق الإنسان بالقرار، واعتبرته "خطوة مهمة" تعترف بعدم استقلالية المجلس و"تواطئه في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر". ولعبت هذه الجبهة دورًا، على ما يبدو في قرار خفض التصنيف، إذ قدمت معلومات للجنة الفرعية بشكل فردي أو بالتعاون مع منظمات حقوقية أخرى.
غير أن النقاش الذي دار في اجتماع الأمس غابت عنه نقاط أساسية فيما يخص الانشغال بتحديد الدور الرئيسي للمجلس وكيفية تطوير هذا الدور في ظل التغيرات التي يشهدها النقاش العالمي لمسألة حقوق الإنسان، وتطوير الاستجابات الوطنية بما يتوافق مع هذه التغيرات التي تعمل على تطوير المنظومات الحامية لحقوق الإنسان، الطبيعية والمكتسبة، على المستويين الوطني والعالمي، وهي عملية لم تنجز بعد لكنها تتطور، وأظن أن عدم إلمامنا بهذه التغيرات وبالتطور الحادث سيزيد من الفجوة المعرفية والمؤسسية بيننا وبين العالم على هذا الصعيد، ولن يسهم ذلك في تحقيق التقدم المنشود في مسيرة حقوق الإنسان في مصر، من خلال التركيز على الجوانب الفنية والتقنية التي تخرج مسألة المساس بكرامة الإنسان وحقوقه من دائرة التوظيف السياسي. ويتطرق هذا المقال إلى مسائل أساسية أتصور أنها غابت عن نقاش الأمس، تستكمل النقاط المهمة التي تطرق إليها النقاش والتي تمحورت حول أهمية أو عدم أهمية التصنيف، وتقييم قرار اللجنة الفرعية للاعتماد ومدى تأثرها بالاعتبارات السياسية؛ وقضية التمويل، والإصلاحات التشريعية والمؤسسية اللازمة والتي تضمن للمجلس استقلاليته وفاعليته وتأثيره داخل منظومة حقوق الإنسان في مصر. وعبر هذا النقاش عن رغبة صادقة في توظيف أفضل للكوادر والخبرات المصرية التي تبلورت من خلال العمل في هذا الميدان، والتي يعبرها عنها عدد الكوادر المصرية التي تشغل مناصب رفيعة في لجان وهيئات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان.
بين السياسة والمعايير
حضرت قبل نحو ثلاثة أعوام لقاء تشاوريًا آخر في المجلس حول دور الأحزاب السياسية في تفعيل "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان 2021-2026"، التي أعدتها اللجنة الدائمة العليا لحقوق الإنسان في مصر، دعيت إليه الأحزاب السياسية المرخصة في مصر، وشارك فيه عدد كبير من الأحزاب الصغيرة والهامشية، التي كان همها الأساسي أن يضغط المجلس القومي لحقوق الإنسان على الحكومة كي تعيد الدعم الذي كانت تقدمه الدولة للأحزاب السياسية، ولم ينشغل زعماء الأحزاب الذين حضروا الاجتماع بالموضوع الرئيسي للنقاش، وهو كيفية تفعيل الاستراتيجية الوطنية ودورهم في ذلك. كذلك، نظم المجلس عدة فاعليات أخرى حول تفعيل هذه الاستراتيجية التي شارك في إعدادها، منها ندوة حول دور الإعلام في تفعيلها.
تستهدف الاستراتيجية التي أشرفت اللجنة الدائمة العليا على إعدادها من أجل تحسين حالة ووضع حقوق الإنسان في مصر، ورفع مستوى وعي مؤسسات الدولة المختلفة بموضوع حقوق الإنسان، والمعايير التي يجب توافرها. الوثيقة وفق آلية بلورتها و صياغتها تعكس تحولا مهما في وعي الدولة المصرية وقيادتها السياسية والإدارية لأهمية موضوع حقوق الإنسان وعلاقته بنجاح الخطط التنموية للدولة والتي تستجيب للتطور في الوعي العالمي لقضايا التنمية المستدامة التي عبرت عنها خطة الألفية للتنمية المستدامة 2030 التي أعدتها الأمم المتحدة، وكذلك تطور وعي الدولة بضرورة تبني نظرة شاملة لمختلف الجوانب المتعلقة بحقوق الإنسان والتي تعكسها المواثيق والعهود الدولية التي تلتزم بها مصر، وأدراك دور مصر في إطار المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، وهي جميعا نقاط يجب الالتفات إليها والبناء عليها في أي نقاش عام يتعلق بالوضع الراهن لحالة حقوق الإنسان في مصر، ومستقبلها، وكذلك لدور المجلس القومي.
قد يكون من المفيد، في هذا السياق، التنبيه إلى بعض النقاط المهمة التي تضمنتها الوثيقة. بداية، أشارت الوثيقة تحت بند المبادئ الأساسية والتحديات الرئيسية، إلى الحاجة إلى تعزيز ثقافة حقوق الإنسان وتعزيز المشاركة في الشأن العام، في إطار التعامل مع الصعوبات والتحديات التي تعوق تحقيق التنمية الاقتصادية التي تستهدفها الدولة، والتي تتماشى مع خطة الألفية. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الوثيقة ذكرت مسارات محددة لتنفيذ الاستراتيجية ومتابعة التنفيذ تركز على التطوير التشريعي والتطوير المؤسسي ومسار التثقيف وبناء القدرات ووضعت إطارًا زمنيًا للتنفيذ، وترجمة هذا التصور العام إلى عدة محاور يتم العمل من خلالها، وهي نفاط مهمة عند تقييم ما تحقق من تقدم في تنفيذ الاستراتيجية مع اقتراب نهاية الإطار الزمني الذي حددته، عام 2026، ودور المجلس القومي في هذا الصدد.
وجرت عدة تقييمات قد يكون من المفيد الوقوف نتائجها، في سياق النقاش المتعلق بتطوير المجلس القومي لحقوق الإنسان، خصوصًا في ضوء الدور المتوقع للمجلس في تفعيل المحور الرابع في الاستراتيجية المتعلق بالتثقيف وبناء القدرات، والذي يشمل آليات لنشر ثقافة حقوق الإنسان عبر دمجها في مراحل التعليم المختلفة وبرامج تدريب العاملين في مؤسسات الدولة، والأهم تطوير مؤشرات لقياس فاعلية ومردود هذه البرامج.
هذه المنهجية تساعد على إخراج ملف حقوق الإنسان من المشاحنات والخلافات السياسية، والعمل المستمر من أجل التنبيه إلى أهمية ومحورية دور الدولة كضامنة لحقوق الإنسان وحامية لها، وهو ما أكدته وثيقة الاستراتيجية الوطنية، في التمهيد، إذ أكدت وجود "الإرادة السياسية العازمة" والإشارة على أهمية المضي قدمًا، وبجدية، في الارتقاء بأوضاع حقـوق الإنسان، في سياق "الالتزام باحترام الدستور"، والتي ترى الوثيقة إلى أنه حقق "نقلة نوعية كبيرة في مجال كفالة الحقوق والحريات الأساسية، ويؤكد مبادئ المواطنة وسيادة القانون في إطار من المساواة وعدم التمييز"، على مستوى النصوص على الأقل. وتعكس الوثيقة إدراك قيادة الدولة بأن حقوق الإنسان هو محور العملية التنموية. المشكلة تكمن في تفعيل هذه النصوص على مستوى الممارسة، وفي هذا السياق يجب التفكير في الدور الذي يمكن أن يلعبه المجلس القومي لحقوق الإنسان في العام القادم على مستوى إعداد تقارير موثقة وجادة لتقييم التقدم في تحقيق الاستراتيجية الوطنية والمطلوب للتعامل مع أوجه القصور التي شابت التطبيق وكيفية التغلب على الصعوبات والمعوقات والتي أشار إليها العديد من الخبراء المشاركين في نقاش الأمس، رغم أن بعض المداخلات لم تكن على مستوى وعي القيادة السياسية للدولة لأهمية المنظومة العالمية لحقوق الإنسان، بل حول دور الدولة ومسؤوليتها في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وهو أمر يخالف ما رآه البعض من ان الدولة في أي مكان وزمان، تنتهك بالضرورة حقوق الإنسان، في حين أن الفلسفة السياسية ونظريات الدولة إنما تشير إلى أن الدول قامت لحقوق الإنسان بعيد ميلاد الفرد وانعتاقه من أسر التكوينات الاجتماعية قبل الحديثة.
صحيح أنه لا تزال هناك تداخلات قوية بين السياسة وملفات حقوق الإنسان، وأن هذه التداخلات له تأثير سلبي على تطوير منظومة حقوق الإنسان من خلال الأمم المتحدة وهيئاتها المعنية بهذا الملف، لكن أحد المداخل المهمة إنما يتمثل في محورية دور الدولة الوطنية في تعزيز وضع حقوق الإنسان، واعتبار أن الدولة هي الآلية الأساسية لضمان حقوق الأفراد والمواطنين في مواجهة صور الانتهاكات المختلفة التي تحدث في سياق علاقات السلطة السياسية أو السلطة الاجتماعية، وأن التطور الدستوري وتطور مفهوم سيادة القانون وفعاليته بمعنى تفعيل مبدأ المساواة أمام القانون وتقليل مساحات السلطة التي تحصن بعض المواقع القانونية أو السياسية في مواجهة القانون وتنتج مراكز فوق القانون، هي المدخل الرئيسي لكل صور الانتهاكات المحتملة لحقوق الأفراد وانحرافات السلطة. هذه المسألة تستدعي منا التمييز الصارم بين ثلاث مستويات في الدولة، هي مستوى الدولة ومؤسساتها التي يفترض فيها التعبير عن كافة مكونات الدولة وفي مقدمة هذه المكونات، المواطنين، وبين الحكومة المفوضة في ممارسة السلطة التي تمكنها من الحكم، والتي تعد مكونا من مكونات الدولة، وتخضع لرقابتها وسلطتها، وبين الدولة وبين السلطة بأوجهها المختلفة الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية.
إن المفهوم الأساسي لدولة القانون والمؤسسات، إنما يتمثل في تنظيم ممارسة الأشكال المختلفة للسلطة بما لا يجور على حقوق المواطنين وينتهكها. في هذا السياق يمكن التفكير في دور المجلس الوطني وعلاقته بكل مستوى من المستويات الثلاثة، بما يضمن استقلاليته كمكون رئيسي من مكونات الدولة، ويكون ذلك من خلال تمكينه وتزويده بالموارد المالية والكوادر البشرية اللازمة لضمان أداء دوره بفاعلية وشفافية في الارتقاء بوضع حقوق الإنسان في مصر وضمان حصول مصر كدولة عريقة على مكانتها اللائقة في منظومة حقوق الإنسان بما يعزز من مكانتها الأخلاقية في المجتمع الدولي.
نحو سياسة عامة لحقوق الإنسان
كان من المفترض ترجمة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان إلى سياسة عامة لتحسين وضع حقوق الإنسان في مصر من خلال ترتيبات قانونية ومؤسسية، ومن المفترض أن يكون للمجلس بوصفه الهيئة الاستشارية للدولة المناط بها التفكير في تحسين حالة حقوق الإنسان دور رئيسي في صنع هذه السياسة العامة على قدم المساواة مع الهيئات الحكومية، وعلى رأسها اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، والسلطة التشريعية ممثلة في مجلس النواب ولجنة حقوق الإنسان في المجلس، وأن يكون كذلك آلية تضمن مشاركة منظمات المجتمع المدني العاملة في هذا المجال في صنع السياسة العامة وتنفيذها.
كان من المتوقع أن يبدأ النقاش حول تطوير دور المجلس وزيادة فاعليته بالسؤال عن دوره في صنع السياسة العامة لحقوق الإنسان، وهو سؤال يستدعي بالضرورة السؤال عما إذا كانت هناك سياسة عامة لحقوق الإنسان. هذا السؤال لا يعني وضع العربة أمام الحصان كما يتصور البعض، وإنما هو سؤال عملي يتعلق بترجمة وثيقة الاستراتيجية الوطنية إلى خطة عمل سياسية يتشارك في وضعها السلطتان التنفيذية والتشريعية في الدولة والمجلس القومي لحقوق الإنسان بما له من صلاحيات يحددها القانون الذي يحكم عمل المجلس ولائحته التنفيذية، وكذلك منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الإنسان بما يضمن الشراكة بين الحكومة والقطاع المدني في صنع السياسة العامة وتنفيذها.
يتصل بهذا السؤال سؤال آخر عن وضع المجلس القومي لحقوق الإنسان في المنظومة الوطنية والمنظومتين الإقليمية والدولية، وكذلك طبيعة علاقته بالمنظمات غير الحكومية العاملة في هذا الميدان على المستويين الوطني والإقليمي، مثل المنظمة العربية لحقوق الإنسان، أو المستوى الدولي، وهيئات الأمم المتحدة ولجانها، وبما يتماشى في التوجه العالمي لدمج هذه المنظمات في منظومات مجتمع حقوق الإنسان على المستويات الثلاث، والدور الذي تلعبه هذه المنظمات في تطوير المعايير العالمية والإقليمية والوطنية لحقوق الإنسان بما يعكس التباينات الثقافية بين الجماعات المختلفة وموقفها من بعض التوجهات الجديدة في التفكير الحقوقي، لاسيما فيما يخص الحريات والحقوق الشخصية وما يرتبط بها من تحولات في الموقف من بعض الجماعات الناشئة استناداً إلى توسيع مفاهيم حقوق الإنسان للتعامل مع التباينات التي تفرضها التصنيفات الجديدة للنوع الاجتماعي والتي تعكس تباينات واختلافات شديدة في موقف الدول من مفاهيم تتصل بحماية الميول الشخصية للأفراد في المجتمعات المختلفة، خصوصًا من منظور مكافحة التمييز بين الأفراد. هذه الأمور باتت وثيقة الصلة بثقافة حقوق الإنسان في المجتمعات المختلفة، والتي قد يرى بعض النشطاء والخبراء في مجال حقوق الإنسان أن مناقشتها تعد ترفًا في بعض المجتمعات التي لا تضمن الحقوق الأساسية، لاسيما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والحقوق السياسة والمدنية.
قد يكون هذا الموقف صحيحا، لكن ينبغي الدفع به من خلال سياسة عامة لحقوق الإنسان تحدد مجالات العمل الأولى على المستوى الوطني ودون التصادم مع المعايير العالمية التي قد تناسب ظروف مجتمعات أخرى تناقش فيها قضايا مثل الحقوق الجندرية والشخصية على أرضية مختلفة، فمن شأن السياسة العامة أن تقيم التوازن الضروري واللازم بين المعايير العالمية والخصوصية الثقافية للمجتمعات المختلفة دون اتخاذ هذه الخصوصيات كذريعة تبرر انتهاك حقوق الإنسان، ذلك أن انتهاك هذه الحقوق يظل انتهاكًا في أي مكان بغض النظر عن الاختلافات الثقافية.
لقد أوضح النقاش الذي دار في لقاء الأمس عن دور المجلس في مجال الصحة الإنجابية عن قضايا شديدة التعقيد، لكن نشاط المجلس فيها عكس نفهما أوسع لهذه القضايا استناداً إلى الآراء العلمية ورأي الخبراء المختصين بما يساعد على تقليل الانتهاكات للحقوق بدعوى الخصوصية الثقافية للمجتمع والتي تفتح البات لأشكال مختلفة من الانتهاكات المجتمعية لحقوق الإنسان. قد يقدم الملف الخاص بوضع الأقليات الاجتماعية أو الدينية أو الثقافية إطار أكثر ملاءمة للبدء في نقاش يساعد على تعزيز ثقافة حقوق الإنسان، ويساعد أيضا على تطوير السياسات العامة والآليات المؤسسية والاجتماعية لتعزيز حقوق الإنسان على مستوى الثقافة وعلى مستوى الممارسات والتطبيق. ويمكن لمجلس حقوق الإنسان أن يلعب دورًا رئيسيًا في هذا الصدد في سياق فهم أوسع للدور الذي تضطلع به المؤسسات القومية المتخصصة في المجتمعات المختلفة، والذي يتمثل في التعامل مع بعض الجوانب الاجتماعية والثقافية التي تقيد التوسع في القوانين والتشريعات التي توفر حماية أفضل لحقوق الإنسان في مصر. ويرتبط بهذه النقطة مناقشة مسألة دور المجلس وهل هو دور رقابي على الحكومة والسلطات، أم أن دوره هو دور استشاري وموجه للسياسة العامة وتطويرها والمشاركة في وضع معايير لتقييمها وتقييم تنفيذها.
المجلس بين الدور الرقابي والدور الاستشاري
لقد حظيت آلية الشكوى كواحدة من آليات عمل المجلس بقدر وافر من المناقشات في اللقاء التشاوري، وانصرف جانب كبير من المناقشات إلى كيفية تفعيل هذه الآلية، فيما انشغل البعض في مناقشة جدوى هذه الآلية من الأساس، خصوصًا في ضوء محدودية الموارد البشرية والمالية والمؤسسية التي تمكن المجلس من متابعة الشكاوى وإحراز تقدم في التحقيق فيها وفي إزالة أسبابها. هذه الآلية لا تقتصر فقط على المجلس القومي لحقوق الإنسان، وإنما توجد في بعض المجالس القومية الأخرى، مثل المجلس القومي للمرأة والمجلس القومي للطفولة، وجميعها أنشئت بغرض تحسين مؤشرات أداء الدولة في تنفيذ التزاماتها وتعهداتها الدولية بموجب المواثيق والعهود الدولية. وإحراز تقدم في الشكاوى المقدم من بين المؤشرات المعتمدة للحكم على فاعلية هذه المجالس. لقد أفاض الكثير في تأكيد محدودية تأثير المجلس وأن التقدم في تحقيق هذه الشكاوى يعتمد على هيئات أو جهات أخرى ليس للمجلس سلطان على نشاطها، كما أنه يتطلب امتلاك موارد وأدوات يفتقر إليها المجلس للتحقيق في الشكاوى وحلها، الأمر الذي دعا البعض إلى مراجعة آليات عمل المجلس في هذا الصدد، والدعوة إلى تركيزه أكثر على دوره كهيئة استشارية لمؤسسات الدولة دورها هو التنبيه إلى أوجه القصور وتقديم توصيات سياسية للتعامل معها. المهم في الإصلاح التشريعي المقترح هو توفير الحماية للمجلس في أداء هذا الدور وتقديم الحصانة اللازمة له، والتجاوب مع ما يصدره من تقارير والرد عليها.
وفي هذا السياق أيضًا، يُفضل بلورة الاقتراحات التي قدمت من أجل تطوير الآليات التي تضمن للمجلس استقلاليته وتزيد من شفافية نشاطه وأدائه، بدءا بالتفكير في آليات بديلة لاختيار أعضائه والاختصاصات المناطة بهم، وذلك زيادة موارده من الكوادر البشرية والمالية التي تمكنه من القيام بمهمة الرصد والتوثيق والتقارير التي يصدرها والعمل على تطوير منظومة حقوق الإنسان وبناء علاقة بناءة وإيجابية مع منظمات المجتمع المدني والاضطلاع بدور أكبر في تأهيل كوادر هذه المنظمات على التعامل بحرفية ومهنية في ملف حقوق الإنسان والتقليل من تأثير الخلافات والمشاحنات السياسية على تقييم حالة حقوق الإنسان في مصر وكيفية التعاون لتحسينها. فالعبرة هنا بالتقييم الموضوعي المستند إلى مؤشرات للقياس تمكننا من الوقوف على الصورة الحقيقية لهذا الملف والممارسات والأطر القانونية الحاكمة والإصلاح التشريعي والمؤسسي الذي يضمن تحسين الوضع ومواصلة العمل من أجل التحسين.
إن لغة الخطاب التي تنطلق من أن كل الدول والمجتمعات تعاني من صور مختلفة للانتهاكات، والتي تركز على ازدواجية المعايير في تصنيف الدول وفي توجيه ملاحظات نقدية لها، أو تلك التي ترفض تطور منظور الأمم المتحدة لحقوق بعض الأقليات الاجتماعية كمسوغات لانتهاكات لحقوق الإنسان لا تساعد على تحسين الوضع وإنما تكرس لهذه الانتهاكات على نحو قد يفتح الباب لتوسعها. قد يكون مقبولاً أن تكون الاستجابة لخفض التصنيف هي الدافع الرئيسي لإصلاح وضع المجلس إذا كان الغرض من هذا الرفض هو تأكيد أن إصلاح الوضع هو ضرورة تمليها اعتبارات تتعلق بحالة حقوق الإنسان في مصر، والتي تستدعي المزيد من الجهد والعمل لتطويرها، لكن من غير المقبول أن يكون رفض التصنيف من أجل تبرير استمرار الوضع على ما هو عليه، بدعوى أن كل الدول فيها انتهاكات أو بسبب ممارسات تنطوي على ازدواجية في المعايير، أو إلقاء مسؤولية الانتهاكات على أوضاع اجتماعية لا تقبل التسامح مع بعض الأفكار المغايرة لقيم المجتمع وثقافته، فمن المهم تأكيد أن تحسين وضع حقوق الإنسان عملية مستمرة وليست مهمة تنجز دفعة واحدة، ذلك أن أوضاع حقوق الإنسان في أي مجتمع قد تشهد انتكاسات وتراجعا تستدعي اليقظة الدائمة وتطوير آليات للاستجابة.
------------------------------------
بقلم: أشرف راضي