14 - 09 - 2025

تأملات في الحياة والبشر .. حين يصبح النضج عبئاً

تأملات في الحياة والبشر ..  حين يصبح النضج عبئاً

كل إنسان يسعي ان يكون افضل مهما كانت البيئة المحيطة به و في زوايا مجتمعات يغلب عليها العشوائية، حيث يسود الجهل والتخبط وتغيب القيم المنظمة للحياة، يولد أشخاص يملكون قدراً من الطموح والفضول يدفعهم للبحث عن المعرفة والثقافة. هؤلاء يختارون أن يتعلموا بأنفسهم، أن يقرأوا ويطالعوا وينفتحوا على تجارب خارج دوائرهم الضيقة. لكن رحلة النضوج هذه لا تكون دائماً نعمة، بل قد تتحول إلى عبء نفسي مرهق علي بعضهم  .

فالنضوج الزائد وسط بيئة غير ناضجة احيانا يضع الإنسان في مأزق دائم قد  يجعله ينكسر داخلياً او يقتل  نفسياً تحت ضغط التناقضات، و قد يختار الانعزال عن محيطه ليحافظ على توازنه. وكلا الخيارين مرهق، لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يحتاج إلى التفاعل مع محيطه، لا أن يعيش منقطعاً عنه.

و مع مرور الوقت، يجد هؤلاء أنفسهم ممزقين بين عالمين ، عالمهم الأصلي الذي يتميز بالفوضى والعادات البالية والسطحية ، وعالمهم الجديد الذي تشكل بفضل الثقافة والوعي والانفتاح.

لكن التعايش مع هذين العالمين لا يكون سهلاً علي الجميع فقد يضطر  بعضهم لتقمص شخصيتين متناقضتين .. شخصية "ابن البيئة" التي يتعامل بها مع أسرته وجيرانه، وشخصية "الإنسان الواعي" التي يظهر بها في دوائر العمل أو الثقافة أو الحياة الفكرية. وبين الشخصيتين يعيش صراعاً نفسياً صامتاً، لا يستطيع الإفلات منه وهذا الصراع قد يكون سبب في حدوث اضطراب في الشخصية وقد يصيب صاحبه بالاكتئاب نتيجة الانقسام النفسي الذي يعيشه .

و المؤلم أن هذا الانقسام يترك أثره حتى على أقرب الناس إليهم. فالأبناء مثلاً لا يرثون المعرفة التي تعب آباؤهم في تحصيلها، لأن الأب يعيش بين شخصيتين متباعدتين، غير قادر على دمجهما في حياة واحدة متماسكة يمكن أن تنتقل إلى الجيل التالي. وهكذا، بدلاً من أن يكون الأب جسراً يربط أبناءه بعالم الوعي والمعرفة، يصبح هو نفسه أسيراً بين عالمين لا يستطيع الجمع بينهما.

وفي بعض الحالات، يكون الانفصال الداخلي شديداً لدرجة أنك إذا التقيت هذا الشخص في بيئته العشوائية فلن تستطيع أن تتعرف عليه، حتى لو كنت تعرفه جيداً في محيطه الواعي والمثقف و كأنه شخصان يعيشان في جسد واحد، يذوبان تارة ويتنافران تارة أخرى.

القضية هنا ليست فردية فحسب، بل تحمل بعداً إنسانياً واجتماعياً عميقاً. إذ تكشف عن الفجوة الكبيرة التي تعيشها مجتمعاتنا بين من يحاولون الارتقاء بالوعي والثقافة، وبين بيئات ما زالت تعيش في دوائر التخلف والسطحية. إنها معركة خفية يخوضها الكثيرون يومياً بصمت، معركة للحفاظ على الذات في وجه العزلة والتمزق.

ويبقى السؤال: كيف يمكن لهؤلاء أن يحققوا التوازن؟ كيف نخلق مجتمعات تحتضن النضوج بدلاً من أن تجبر اصحابها  على العزلة أو التلون؟ الإجابة قد تبدأ من اعتراف هؤلاء  بوجود هذه الفجوة وان يشمل وعي الانسان قوة يستطيع من خلالها تحسين البيئة التي يعيشها داخل مجتمعه العشوائي وان يبذل جهد في رفع وعي اسرته  وأبناءه منذ الصغر ليأخذ بايديهم ليكونوا امتداد جيد له  ويستفيدوا  مما وصل اليه أباءهم  وقد يكون ذلك نواه لتغيير البيئة ككل و حتى لا يظلوا مجرد غرباء داخل بيوتهم ومجتمعاتهم او ان تبتلعهم هذه المجتمعات العشوائية مرة أخرى نتيجة ضعف قدرتهم في مرحلة ما  علي المقاومة .

--------------------------------------

بقلم: سحر الببلاوي

مقالات اخرى للكاتب

تأملات في الحياة والبشر ..  حين يصبح النضج عبئاً