15 - 09 - 2025

قراءة في المشهد الإبداعي الإسباني .. السخرية سلاحٌ قادرٌ على كسر المنظومة النمطية في الفكر

قراءة في المشهد الإبداعي الإسباني .. السخرية سلاحٌ قادرٌ على كسر المنظومة النمطية في الفكر

الأدب الفُكاهي يجُبُّ أي لونٍ إبداعي خلافه وسعادة الكاتب بما يكتبه ضمانة نجاحه

  في لقاء ثقافي يُدشن التعاون الثقافي المصري - الإسباني، استضافت المائدة المستديرة بصحيفة الأهرام الشقيقة الكاتب الإسباني إجناثيو بيدال فولش؛ ليلقى الضوء على المشهد الإبداعي الإسباني في الوقت الراهن. حضر الندوة إدوارد كالبو مدير المعهد الإسباني بالقاهرة، ولفيفٌ من المثقفين، وترجمتها عن الإسبانية د. عبير عبد الحافظ أستاذ الأدب الإسباني بجامعة القاهرة.

فى البداية أعرب إجناثيو عن سعادته بوجوده في الأهرام بصفتها صرحا إعلاميا عريقا، مُتمنيا أن تنال محاضرته رضا الحضور، وأكد أنه كان يريد أن يرحب بالحضور على طريقة الكاتب والرسام الإسباني الشهير "سلفادور دالي" بأن يأتي برغيف خبز طويل يلفه حول رأسه كالعمامة ويحيي الحاضرين.

وأكد إجناثيو أنّ سلفادور عندما سافر أول مرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1941م، طلبَ أن يُصنع له رغيفٌ من الخبز يبلغ طوله ثلاثة أمتار كنوع من الدعاية، وظل هاجسُه الوحيد وشغُله الشاغل في الطائرة ألا يُكسر هذا الرغيف، ناسيا من أجل ذلك الرغيف العملاق أولاده وعائلته وبلده !

وأَضاف إجناثيو أنّ سلفادور كان، إلى جانب كونه رساما بارعا، كاتبا ساخرا من الطراز الأول، مُشيرا إلى أنه هو شخصيا، قرأ نصوصه التي كانت على قدر كبير من السخرية، وقد استفاد منها شأنه شأن بقية المجتمع الإسباني، الذي كان بحاجة إلى استنهاض روح الدعابة في فترة هيمنت عليها التعاسةُ والكآبة.

ودلل إجناثيو على  إعجابه بسلفادور دالي بتأكيده أنه توجد في مكتبته مجموعة من الكتب المُهمة الأكثر تأثيرا وتسلية منها كتاب دالي (سر حياتي)، والذي استشهد منه بعبارة استهل بها دالي كتابه تقول: أعتقد أن قرائي جميعا قد نسوا أهم فترات حياتهم، وهى الفترة التي كانوا فيها في أرحام أمهاتهم، أما أنا فبالنسبة لي أذكُرها جيدا كما لو كانت بالأمس !

وهذه العبارة تشى بحدة ذكاء دالي، فإذا كان القارئ عاجزا عن تذكر فترة وجوده برحم أمه، فإنه - يقصد دالي- لا يجهل كلّ شيء عن هذه الفترة مثل الآخرين بل يُوجد ما يتذكرُه.

وإن كانت تلك مبالغة، لكنه أراد أن يعبر بها عن قوة ذاكرته.

وأشار إجناثيو إلى أن كتاب دالي هو كتابٌ ساخر صنفه صاحبه لينعم قارئه بالضحك كلما قرأه.

وعن أصل الضحك وسببه، أكد إجناثيو أن هناك دراسات أثبتت أنه مجرد رد فعل يرتبط تحديدا بفكرة الإحساس بالخطر، الذي بمجرد تجاوزه تبتهج أساريرُ المرء، ويبدر عنه الضحك، الذي تظهر ملامحُه على الوجه.

ثم لفت إجناثيو إلى ما يسمى بـ ( الضحكة المتوحشة)، التي تظهر على الوجه، ودلَّل عليها بصورة إنسان يُعذّب، ويتعرض لأذى جسدي، وخلفه مجموعةٌ تضحك، وهى الفكرة المُشابهة لصورة تعذيب المسيح عليه السلام، حيث كانت هناك مجموعةٌ خلفه لا تكفُ عن الضحك بنفس الصورة الوحشية.

واستشهد إجناثيو على كلامه بخطاب المؤلف الموسيقي النمساوي "موزارت" لأبيه، حيث حكي فيه كيفية إعدام أحد الصعاليك، وكيف أنّ الناس قضوا الوقت في سعادة ومرح من تلك الصورة الهزلية، ومن هذا يبرز مدى التناقض بين شخصية موزارت الرقيقة وسعادته بمشهد التعذيب !

وعن بداية ظهور الدعابة في الأدب، قال إجناثيو إنها ظهرت في آسيا الصغرى منذ مئات السنين، وكانت عبارة عن أهازيج ومشاهد بدائية من مسرحيات مُضحكة، تُقام عقب ولائم يتجمع فيها الناس، ليعرضوا الأحداث اليومية، وينتقدوا فيها الحياة، وغالبا ما كانت تنتهي تلك المشاهد بموت البطل، والمقصود أنهم كانوا يعرضون الحياة عبر تلك المشاهد من وجهة نظرهم.

واستأنس إجناثيو في تفسيره للضحك برأي قدماء الإغريق، حيث ساق عبارة للفيلسوف أرسطو أكد فيها أن الضحك استعدادٌ ضمني داخل النفس، يتحقق من خلال أقوال بليغة أو حركات بهلوانية أو نكات فتنطلق الضحكات؛ وبذلك يُعتبر وسيلة لتأمل الواقع من وجهة نظر أخرى، بخلاف التراجيديا، التي هي عبارة عن مجموعة من المشاهد المأساوية تعرض لأيام مُتتالية، ويشاهدها الجمهور دون أن يكف عن البكاء، الذي يكون تنفيسا عما بداخله من يأس وحزن وطاقات سلبية.

وعن وجه الشبه بين رواية "إكو" وما كتبه أرسطو فى دفاتره، قال إجناثيو إن الكاتب الإيطالي "أومبيرتو إكو" شبّه في نهاية روايته البوليسية ( اسم الوردة ) البطل الشر أو البطل الضد، وكان قسا مسيحيا، بإحدى شخصيات أرسطو، حيث قام بحرق الكتب والدير ونُزل الرهبان؛ حتى لا يصل كتابُ أرسطو لأحدٍ من القراء والجمهور؛ لأنه يراه، من خلال السخرية وروح الدعابة والاستعارة، يستدعى الصفات الدنيا في شخصية الإنسان بشكل عام.

بمعنى آخر: الصورة التي ساقها أومبيرتو، تعكس أن السخرية سلاحٌ قوى وقادر على كسر المنظومة النمطية؛ باعتبارها ثورة عارمة تتنامي فى النفس، وتصعد مُحطمة النمط والشكل التقليدي للمنظومة الفكرية، مُستشهدا بالأحداث فى روسيا، فعند انعدام الحوار السياسي الديمقراطي بسبب هيمنة الديكتاتورية، لم يجد الشعبُ بُدا من إطلاق النكات الساخرة اعتراضا على الواقع المعيش، واستدل على ذلك بـ (راديو ريبل)الذى يجيب عن الأسئلة التى يعجز الشعب عن أن يوجهها للنظام، فكان بهذا وسيلة للسخرية والتسلية.  

وأبدى إجناثيو إعجابه كذلك برواية (الطاعون) للكاتب الفرنسي ألبير كامو، الحاصلة على جائزة نوبل، والتي تدور أحداثها فى وهران بالجزائر، حيث تُهاجم جحافل من الفئران المدينة، فتنشر مرض الطاعون الذي يتوفى بسببه أحد الأشخاص، مؤكدا أنها كانت سببا في احترافه مهنة الكتابة.

وقال إجناثيو إن شخصية (جراند)، هي ما لفتت انتباهه في رواية (الطاعون)، وكان جراند موظفا بسيطا يعمل فى البلدية، وانفصلت عنه زوجته، أي أنه كان عنده كثيرٌ من المشاكل، ورغم هذا بمجرد ظهور الوباء، سارع بتقديم المساعدات ونقل الجثث ومُساعدة المحتاجين، وفى النهاية يُصاب جراند بالعدوى، ويزوره أصدقاؤه، فيطلب منهم أن يحرقوا مخطوطاته التي لم تكتمل؛ بدافع أنه كان يبحث عن الكمال في كل شيء، ومادامت تلك المخطوطات لم تكتمل فالأولى بها الحرق.

وقال إجناثيو إن الشخصية الوحيدة التي يذكرها من رواية كامو هي "جراند"، تماما كما يذكر شخصية الشخص خفيف الظل فى رواية "مدام بوفارى" لفلوبير، وهو ما يفسر أن الكوميديا هي التي تأخذ بتلابيب الذاكرة أكثر من أيّ لون كتابي آخر، حيث أكد أنه لايمكن لأحد أن يتذكر كُتابا آخرين ظهروا في حقبة "مولير" الفرنسي، و"ثربانتس" الإسبانى، والسبب أنهما كانا يميلان إلى السخرية والدعابة والفكاهة التي تجبُّ أي لون من ألوان الكتابة الأخرى، وأضاف إجناثيو، وما دمنا نتحدث عن الدعابة، فلا ننسى الكاتب التشيكي الفكاهي "ميلان كونديرا" وكتبه: (الضحك والنسيان )، و( دعابة )، و( حب الحمقى )، مُبينا أثر الدعابة في تلك الكتب وتأثيرها على الأشخاص من منظور علم النفس، وكذلك الأديب المكسيكي "أوكتافيو" الذي تحدث عن السخرية، مُؤكدا أنها اختراعٌ يُطبق فى الأدب، والدليل أن رواية ( دون كيشوت ) لثربانتس، تجعل الإنسان يضحك لا لوجود عبد أسود مُعلق، لكنها تُضحك لهيمنة روح الكوميديا على أجوائها.

وتدليلا على اهتمام الكُتاب المحدثين بالدعابة، قال إجناثيو إن كونديرا، قام بعمل دراسة عن عناصر الفكاهة والسخرية عند "ثربانتس"، فذكر بعض المشاهد التي تتحقق فيها الدعابة والسخرية إلى حد كبير، مُستشهدا بفصل "كهف منتسينوس"، والذي يخرج منه دون كيشوت، ذلك البطل الذي كان يرى الأشياء على عكس ما هي عليه، ويحكى أعاجيب لا يمكن تصديقُها، فكان يختلق الخيال ليصدقوا مقولاته، والمُضحك - كما يقول إجناثيو -  أنه كان من بين المُستمعين لـ"دون كيشوت" أحد المجانين الذي خرج مُندهشا لا يصدق ما سمع صائحا: بل أنت الذي اخترعت تلك المشاهد لنصدقك، والمعنى أن المجنون عاد إليه عقله لما رأى تلك المشاهد!

وفيما يتعلق بمداخلات الحضور، طرح إدواردو سؤالا: هل الكاتب حين يكتب كتابا ينتزع به الضحكة من فمّ القارئ، لابد وأن يكون مُبتسما وهو يكتبه؟

فرد إجناثيو إنّ الكتابة في البداية والنهاية عملٌ لابد وأن يكون الإنسان سعيدا وهو يعمله؛ لأنه إذا عمله وهو غير سعيد فلن يكون جيدا، ومن خبرته بالعمل في الصحافة والأدب، أكد إجناثيو أنه كانت تظهر على وجهه الابتسامة، وهو يكتب خبرا للصحافة، فتسأله زوجته: لماذا تبتسم وأنت تكتب؟ فيجيب، أتذكر القراء الذين لو قرأوا ما أكتب بعيني فسيفهمون ما أريد ويضحكون كما أضحك.

وبسؤال الكاتب الصحفي محسن عبد العزيز : هل السخرية ترجع إلى طبيعة الكاتب أم إلى العمل نفسه؟

فأجاب إجناثيو بأن هناك نوعين من الكتاب: الأول ساخرون أصحاب صنعة مسلكهم الإبداع مثل عدد من الكتاب الإنجليز، بينما هناك كتابٌ آخرون يستخدمون الفكاهة ويوظفون الدعابة في الأعمال الأدبية، واستشهد برواية " مدينة العجائب" لـ " إدواردو " مُؤكدا أنّ الكاتب، يمكن أن يُوظف الكتابة، فتأخذ جانب السخرية رغم أنه قد لا يكون كاتبا فُكاهيا، والمعنى يقول إجناثيو أن الكتبَ أفضلُ من كُتابها، فبعض الكتّاب يخلق اللون الأدبي الذي يريده، حتى ولو كان هذا مُخالفا لطبيعته، كما أشرت أنت في حديثك للكاتب المصري الساخر أحمد رجب.

وعن سؤال أحد الحضور : هل هناك رؤساء مدعاة للسخرية؟ أجاب إجناثيو نعم هناك رؤساء مثار سخرية مُستشهدا بـ "موران"،  حيث كان يلبس " بابيون" جعله مجالا للتندر والسخرية، وإذا كان الأمر كذلك مع موران، فإن برامج السخرية التى أعدت ضد الرئيس الأمريكي السابق "ترامب" حشدت إليه جمهورا من المؤيدين والمتعاطفين، على عكس ما كان يريد أصحابُها تماما.

واستفسر د. حسين البنهاوي الأستاذ بجامعة عين شمس عن إلى أي حد مثّل "ثربانتس" روح الشعب الإسبانى، بمعنى هل يمكن فهم الشعب الإسباني من أعمال "ثربانتس"؟ وما هي وظيفة الأدب الآنية ؟

فرد إجناثيو: كنا فى إسبانيا نحب أن نرى الحقائق بعين الـ"دون كيشوت" وليس بعين تابعه "سانشو".

وعن وظيفة الأدب أجاب إجناثيو: بأن ذلك سؤالٌ صعب، وعن نفسه فهو مُتشككٌ هل للأدب وظيفة، لكنه يؤكد أن الأدب يوفر الصحبة الجيدة، أي أنه يُتيح للقارئ لقاء مجموعة من الشخصيات الصادقة التي يمكن أن يتحاور معها أفضل من حواره على الحقيقة !

وعن السؤال هل تطول السخرية الأسرة الملكية في إسبانيا، أجاب إجناثيو بأنه توجد سخرية بالفعل طالت العائلة المالكة، ولكن الشعب نفسه هو الذى رفع قضية على هؤلاء الكتاب الساخرين؛ نصرة للأسرة المالكة.

وطرح الصحفي سعد سلطان سؤالا عن أثر الثقافة الإسبانية على المغرب العربي، فأجاب إجناثيو بأن وجود الاحتلال الفرنسي ببلاد المغرب العربي جعل تأثير الفرنكوفونية أشدّ من الإسبانية، رغم قرب المنطقتين، أما إدواردو فأجاب : من واقع عملي لفترة ببلاد المغرب العربي، أرى أن الأمر يختلف في شمال المغرب عن جنوبه، فسكان الشمال أكثر تأثرا بالإسبانية، أما الجنوب فأشد تأثرا بالفرنكوفونية.

وعن سؤاله هل تتوقع أن تصير السخرية علما فى المستقبل، ضحك إجناثيو بملء فيه، مؤكدا بأنها لو صارت علما يدرس فى المدارس فإن هذا سيخلق أطفالا أكثر سعادة.