ثارت موجة من التساؤلات بعد القصف الجوي الهمجي الإسرائيلي في الدوحة مؤخراً، والذي استهدف بعض قيادات حماس ، ومن أبرز تلك التساؤلات كان السؤال الإستنكاري عن قاعدة العيديد الأمريكية العسكرية في الدوحة ، لقد تساءل البعض عن موقفها السلبي من هجوم جوي في سماء البلد الذي يستضيفها ، والذي شاركت فيه وفقاً لإعلان إسرائيلي رسمي 15 قاذفة .. فأين كانت رادارات تلك القاعدة الضخمة التي تعد من أكبر القواعد الأمريكية في المنطقة، وبها مقر القيادة المركزية الأمريكية ؟ ، لماذا لم تتصد للهجوم الإسرائيلي ، رغم أنه يفترض أن أحد وظائفها المعلنة (والتي يتقاضى ترامب ثمنها عداً ونقداً)، هي أنها تتواجد علي الأراضي القطرية لحمايتها ، ليس فقط من البعبع الأيراني ، وإنما أيضاً من بعض الأشقاء العرب الذين كانوا يخططون لغزو قطر ، بل إنه – وفقاً لترامب – تتواجد تلك القواعد في الخليج لحماية عروش الحكام أيضاً .
وحيث أنه لم يجد أحد إجابات علي الأسئلة السابقة ، فقد ذهب البعض إلي وجود تآمر بين أمريكا وإسرائيل لتنفيذ هذا الهجوم ، وبرهنوا علي ذلك بإستحالة أن تقطع القاذفات الإسرائيلية كل تلك المسألة ، وتهاجم ، ثم تعود دون التزود بالوقود في الجو ، وقيل أن هناك شواهد علي أن ذلك تم عن طريق طائرة أقلعت من القاعدة الأمريكية ، ويؤكد ذلك الإحتمال أن التصريح الأول الذي صدر من إسرائيل أفاد بأنه تم إخطار أمريكا بالضربة ، وان ما صدر من تصريحات متضاربة في واشنطن لم ينف ذلك بشكل قاطع .
ومن الجدير بالذكر أنه سبق لي في مقالات قديمة أن تناولت موضوع انتشار القواعد الأجنبية في المنطقة ، مستعرضاً الدور الناجح الذي قامت به مصر في إفشال حلف بغداد ، وتفكيك القواعد الأجنبية في المنطقة ..
وقد تذكرت كذلك موقفي أثناء مشاركتي في الإعداد لأحد إجتماعات " إعلان دمشق " الذي جمع بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وسوريا ، والذي تأسس أساساً كنوع من الدفاع العربي الجماعي الحيلولة دون تكرار مآساة غزو العراق للكويت" .. لقد تسببت إحدى الأوراق التي تقدمت بها في مشكلة مفاهيمية وخلاف حاد في الرأي،. من المؤسف لم يتم الموافقة علي مقترحاتي ( التي لم تجد الدعم الكافي للأسف من رئيس الوفد في مواجهة الهجوم الإنفعالي من ممثلي الدول الخليجية ) ..
ولعل بعضهم يستعيد ذلك الموقف الآن مدركاً أنه فرصة ضاعت كان يمكن أن تساعد في تفادي العديد من المآسي ، ومنها غزو العراق ، وكذلك معضلة القواعد العسكرية الأجنبية التي تتحول تدريجياً إلي عبء علي الدول المضيفة ، ينتهك فيها أشياء كثيرة ، وليس السيادة وحدها .
ومن الطريف أنني بينما كنت أفتش في أوراقي القديمة بحثاً عن بعض المعلومات ، وجدت وثيقة قديمة نقلتها كالعادة بعد أن ترجمتها حول تقرير إسرائيلي عن قاعدة بريطانية فوق الأراضي المصرية (ملفات رئاسة الأركان / يونيو 1954 / أرشيف وزارة الدفاع الإسرائيلية ..نشرت أول مرة في مجلة القوات الجوية الإسرائيلية في عددها رقم 84 ، الصادر في 1971 ، صفحة 18 ). وفيما يلي نص الوثيقة المترجمة :
في يونيو 1954 ، كانت ليلة ظلماء يغطيها سحاب كثيف ، حين كانت طائرة إسرائيلية سي-47 ( من الفائض من طائرات النقل العسكرية الأمريكية التي سبق استخدامها في الحرب العالمية الثانية ) ، تطير من قاعدة عسكرية جوية إسرائيلية في منطقة رامات دافيد ..
وبعد أن قطعت نصف المسافة في مهمة الملاحة الجوية ، توقفت فجأة كل عدادات الملاحة بينما كانت الطائرة تحلق فوق البحر المتوسط ، ومن الطبيعي أن قائد الطائرة لا يستطيع مواصلة الطيران في الليل دون تلك العدادات ، في حين بدأ الوقود في النفاد ..
تشكك طاقم الطائرة في أنهم ربما أصبحوا يطيرون فوق أراض عربية ، لكنهم لم يعرفوا في أي اتجاه .. فجأة ظهرت لهم علي البعد أضواء مدرج طيران ، وهبطت فيه الطائرة مع آخر نقطة وقود .. وتأهب الطاقم لتسليم نفسه كي يقضوا فترة طويلة في الحبس كأسري حرب في بلد عربي .
ويبدو أن طاقم الطائرة كان علي موعد مع أكثر من ضربة حظ ، فقد هبطت الطائرة في قاعدة جوية بريطانية علي أراض مصرية بالقرب من قناة السويس..
قامت أطقم االصيانة البريطانية بإصلاح الخلل في عدادات الطائرة ، وإمدادها بالوقود ( ويقول التقرير أنه تم إرسال فواتير الصيانة والوقود إلي إسرائيل بعد عدة أسابيع )، بينما كان طاقم الطائرة يتمتع بإحتساء القهوة الدافئة ، إلا أنهم بمجرد إنتهاء العمل في الطائرة ، سارعوا في الإقلاع إلي إسرائيل خشية أن تطلع عليهم الشمس ومعها المقاتلات التي لن تجد صعوبة في أسقاطها لأنها طائرة نقل بطيئة وغير مخصصة للقتال .
في صباح اليوم التالي ، وصل ضابط اتصال مصري إلي القاعدة البريطانية مطالباً بتفسير صوت الطائرة التي سمعوها في موقع مصري قريب أثناء الليل ، فتظاهر البريطانيون أنهم لا يفهمون عما يتساءل ، وقيل للضابط المصري أنه ربما " أفرط في شرب الخمر ليلة أمس " .
لا أظن أن ترامب يمكنه أن يتهم أحداً في الدوحة بالإفراط في الشراب !
-----------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق