11 - 09 - 2025

رأس السنة المصرية القديمة (1 توت 6267 مصرية) أقدم وأدق تقويم عرفه الإنسان حتى الآن

رأس السنة المصرية القديمة (1 توت 6267 مصرية) أقدم وأدق تقويم عرفه الإنسان حتى الآن

اليوم 11 سبتمبر 2025 ميلادية يقابله 1 توت 6267 مصرية، رأس السنة المصرية القديمة، في هذا اليوم من كل عام نشعر أن الكون يفتح صفحة جديدة في كتابه العتيق. هو اليوم الذي يهمس فيه النيل بنغمة متجددة، وتصافح فيه الأرض السماء بلغة الأسرار القديمة. الآن وهنا، يلتقي الفلك بالمحراث، ويتشابك التاريخ بالأسطورة، ويقف الفلاح والراهب والشاعر والعالم والفيلسوف أمام تقويم لا يقيس فقط الأيام، بل يقيس معنى الحياة ذاتها. ويعد أقدم وأدق تقويم في العالم حتى الآن.

زمن يُكتب بالماء والنجوم

التقويم المصري لم يولد في أبراج عاجية، بل صنع على ضفاف النيل، حيث راقب المصري القديم نجم الشعرى اليمانية وهو يشرق معلنًا الفيضان، فصار هذا الوميض بداية العام الزراعي. اثنا عشر شهرًا، كلٌ منها ثلاثون يومًا، وخمسة أيام تكمّل الدورة: نظام بديع يربط بين السماء وخصب الأرض، بين لغة النجوم وحبوب القمح التي تخزّن الشمس في قلبها.

تحوت/ توت العبقري

تحوت، الذي سمّى المصريون أول شهورهم باسمه، لم يكن مجرد إله أسطوري؛ كان المعلم الأول، العالم والفلكي الذي راقب النجوم، والكاتب الذي سجّل أنفاس الكون. في صور المعابد، يظهر برأس طائر «أبي منجل» وقلم من بردي، كأنه يذكّر البشر أن الزمن قصيدة تُكتب بمداد الشمس.

لم يكن المصريون القدماء ينتظرون الفيضان بلا حساب. على جزيرة الروضة بالقاهرة، وُضع عمود القياس الشهير داخل بئر عميق متصل بماء النيل. كانت العلامات المنحوتة على الجدران تخبر المهندسين بمستوى الماء: إذا ارتفع إلى الحدّ المنشود، تنبأوا بسنة خصبة، وإن قلّ عن المطلوب، استعدّوا للجفاف. هذا العمود، الذي ما زالت بقاياه محفوظة حتى اليوم في متحف الحضارة وأحيانًا يُزار على الجزيرة، كان بمثابة قلب نابض يُترجم لغة النهر إلى أرقام وقرارات.

حابي، تجسيد النيل وملك الخصب، لم يكن مجرد إله في أساطير المصريين، بل كان محورَ طقوسٍ مجتمعية احتفت بقدوم الفيضان: قرابين عند الضفاف، مواكب كهنوتية، وطقوس شكر ودعاء تُنشدها القرى استعدادًا لفيض يغمر الحقول بالخصب. مع دخول المسيحية تحوّلت بعض مظاهر هذه الاحتفالات إلى طقوس شكر مسيحية وبركات للمياه قُدّمت في الكنائس وعلى الشاطئ، وتقدم صلاة مع كل قداس للنهر والزرع والخير حتى الآن، ومع ظهور الإسلام استمر احترام النهر لكن بصيغ دينية وإدارية جديدة؛ فالأشعار والدعوات الشعبية لم تتوقف، وفي المقابل أصبح للسلطان أو الوالي دور رسمي في قياس منسوب النيل، بواسطة أعمدة قياس أو النيلومتر، لاستقراء حجم الغلة المتوقعة وتقدير الضرائب المطلوبة من الفلاحين، فصار قياس الماء أداةً إدارية بقدر ما هو طقس شعبي. عبر العصور تغيّرت الشعائر والأسماء، ولكن العلاقة الحميمية بين الإنسان والنهر بقيت ثابتة، وها نحن نرى اليوم بقايا أعمدة القياس محفوظة في المتاحف كدليلٍ على تلك العلاقة العملية والروحية معًا.

مواسم وشهور — خريطة العام

السنة تنقسم إلى مواسم ثلاثة: أخيت (الفيضان)، بيريت (الزراعة)، شمو (الحصاد والجفاف). أما الشهور فهي: توت، بابه، هاتور، كياك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، باشون، باوني، أبيب، مسرى، ثم الأيام الخمسة المكملة أو الأيام الستة لو السنة كبيسة. لكل شهر حكاية، ولكل موسم حكمة يعرفها الفلاح قبل أن يخطّها المؤرخ.

الأمثال الشعبية — تقويم على لسان الفلاح

في الريف المصري، ما زالت الأمثال تعيش بذاكرة الأرض:

«توت قول للحر موت» — إعلان رحيل لهيب الصيف.

«طوبة تخلي الصبية كركوبة» — برد يجعل الأطفال والكبار يلتفون حول النار.

«برمهات روح الغيط وهات» — موسم الحصاد يطرق الأبواب.

«أمشير أبو الزعابير» — رياح وتقلبات تدعو للحذر. وغيرها…

بهذه الكلمات، يحوّل الفلاح الزمن إلى إشارات عملية، يتوارثها الأبناء عن الأجداد.

النيروز — من النهر إلى الشهادة

في 1 توت أيضًا، تحتفل الكنيسة بعيد النيروز، بداية السنة القبطية وتذكار الشهداء الذين واجهوا الاضطهاد عبر القرون متخذين عام 284 ميلادية، العام الذي ولد فيه دقليديانوس، أول عام للشهداء، هكذا تداخل الفيضان الزراعي مع فيضان الدم الطاهر، وصار اليوم رمزًا لبدايات متعددة: حياة الأرض وحياة الروح.

حاضرٌ يحتفظ بالدهشة

حتى اليوم، يسأل الفلاح المصري: «إحنا في شهر إيه من شهورنا؟» لا من باب الحنين، بل لأن قراراته الزراعية ما زالت تسمع نصيحة الأمثال القديمة. التقويم هنا ليس تاريخًا على الورق، بل رزنامة حيّة تنبض في الأرض والماء والهواء.

الزمن الذي يتكلم

في 1 توت، لا يمرّ الوقت عبثًا. النيل يقيس نبضه بعمودٍ في المياه، الفلاح يحسب أيامه بالأمثال، والشمس تسجّل حضورها في دفتر تحوت السماوي. إنه العيد الذي يجمع بين الأسطورة والحقل، بين النجوم والسنابل، بين الماضي والحاضر. عيدٌ يقول لنا إن الزمن في مصر لم يكن يومًا أرقامًا فقط، بل كان وما زال قصيدة تُروى كل عام وحياة كاملة يحتفل بها.

 كل عام ومصر كلها بخير وسلام.

-------------------------------

بقلم: هاني منسي

كاتب وناقد

مقالات اخرى للكاتب

رأس السنة المصرية القديمة (1 توت 6267 مصرية) أقدم وأدق تقويم عرفه الإنسان حتى الآن