على ضفاف النيل انتقلت حضارة أدارت العالم عبر آلاف السنين: من قمح مصر القديمة إلى سلالات من المحاصيل التي غذت الأمة. وفي التاسع من سبتمبر من كل عام تذكر الدولة والمجتمع بدور هذا الإنسان الكبيرِ في أثره: الفلاح. لكن هل يكفي يوم على التقويم ليعالج سنوات من الإهمال؟ أم أن الاحتفاء يتحول سنويًا إلى استعراض إعلامي لا ينعكس على حالته، ولا في كرامته؟
اختير يوم 9 سبتمبر للاحتفاء بـ«عيد الفلاح» تذكرا لصدور قانون الإصلاح الزراعي بعد ثورة 23 يوليو 1952 الذي منح الفلاحين حق تملك الأراضي التي كانوا يعملون بها، وارتبط الاحتفال لاحقًا بتوزيعاتٍ ومهرجاناتٍ رسميّةٍ كانت تُقام لتكريم المزارعين وتشجيع الإصلاح الزراعي. الاحتفالات الرسمية المتجددة في عقد الخمسينيات وما تلاها رسخت لهذا التاريخ طابعًا في الوجدان العام.
الزراعة ليست مجرد مهنة هنا؛ هي قاعدة حضارية ومصدر رزق لملايين المصريين. على الرغم من تحوّل الاقتصاد وتنوع مصادره، تظل الزراعة ركيزة للأمن الغذائي، توفر وظائف لقطاعات واسعة، وتؤمن إمدادات رئيسية من القمح والخضر والفاكهة والحبوب. إن الزراعة لا تزال المصدر الرئيسي في الغذاء والدواء والأمن الوطني، وأن دعم الفلاحين يعني دعمَ سلامة المجتمع بأكمله.
كيف تدهور حال الفلاح المصري؟
يعاني الفلاح من تكاليف الإنتاج المرتفعة: أسمدة، مبيدات، تقاوي، أجور آلات ووقود، وإيجارات الأراضي .. كلها ارتفعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، مما ضيق هامش الربح أو جعل الإنتاج خاسرًا لعدد من المزارعين. كما تعاني الأرض من إجهاد واستنزاف التربة: ممارسات زراعية كثيفة، اعتماد كبير على الأسمدة والمبيدات الكيميائية، وسوء إدارة الموارد المائية أدت إلى تدهور خواص التربة في أجزاء واسعة من الدلتا والوادي.
يعد الفلاح من الطبقات الأكثر معاناة من غلاء المعيشة وتآكل العائد الحقيقي. التضخم العام وارتفاع أسعار السلع والوقود يلتهم عائد الفلاح ويجعل مدخوله الحقيقي أقل بكثير مما يحتاجه للحياة الكريمة.
كثيرًا ما ينال الوسيط/التاجر الحصة الأكبر من هامش الربح؛ الفلاح يبيع محصوله ومواشيه بأثمان زهيدة في الحقول أو عند السوق المحلي بينما يصل المستهلك إلى سعر أعلى بكثير، فتكون الربح الأكبر أكثر للجزار الذي يشتري الماشية أو التاجر الذي يشتري المحصول والنصيب الأصغر يكون للفلاح لذا يلجأ أغلب الفلاحين إلى الاستدانة من الجمعية الزراعية مما يغرقهم في حلقة لا تنتهي من الديون. كما أن هناك ضعف عام في المياه والصرف الصحي والخدمات الصحية، التعليمية… مما يجعل المواجهة أصعب ويحفظ الفجوات بين الريف والمدينة.
الفلاح كشتيمة: أثرها النفسي والاجتماعي
في العقل الجمعي أُحيل لفظ «فلاح» كثيرًا إلى دلالة دونية لدى طبقات من المجتمع؛ هذا التحوّل التاريخي في المعنى له جذورٌ اجتماعية وسياسية تعود إلى تقاطعات طبقية قديمة ومحاولات بناء نخبة مدينية متحضرة (تعيش في الحضر) - وربما قادمة من الريف في وقت سابق- حاولت أن تميز نفسها عن الريف. هذه الوصمة لا تؤذي فقط كبرياء الفرد، بل تضعف الفاعلية السياسية والتمثيلية للفلاح، وتزيد عزلة الريف الاجتماعية وتهميشه في الفن والإعلام ومواقع صنع القرار. معالجة هذا القهر الرمزي أمر أساسي في إعادة الكرامة للفلاح وأسرته.
هل يشعر الفلاح أن هناك «عيدًا» له حقًا؟
الجواب معقّد: شكليًّا، نعم، هناك احتفالات رسمية، تكريمات، وتقارير تلفزيونية وإذاعية تبث في 9 سبتمبر. عمليًّا، يشعر كثيرٌ من الفلاحين بأن الاحتفاء لا يترجم إلى تغيير ملموس في ظروفهم اليومية الصعبة.
كيف يمكن تحسين حالة الفلاح المصري؟
يمكن توفير احتياجات الفلاح الزراعية بسعر مناسب، زيادة الدعم للأسمدة والتقاوي، وتعزيز سلاسل إنتاج محلية للأسمدة لتقليل الاعتماد على الواردات. يمكن تمويل ميسر وقروض منخفضة الفائدة. تقليل دور الوسطاء وحماية الفلاح من جشع التجار. تحديد الحد الأدنى للشراء من الفلاح والحد الأقصى للبيع للمستهلك. يمكن دعم التقنيات المستدامة، تدوير المحاصيل، الزراعة العضوية والري الحديث والحفاظ على الموارد المائية ولتحسين خصوبة التربة.
بناء حملة ثقافية وطنية لرفع قيمة الفلاح عن طريق تقديم محتوى إعلامي وفني يعيد بناء صورة الفلاح كقيمة وطنية، إدماج مناهج مدرسية تعلم احترام العمل الزراعي، ومنح جوائز حقيقية للإنتاج والابتكار بدلاً من التكريم الرمزي فقط.
يمكن تشجيع مصانع صغيرة في الريف لتحويل المنتجات، مما يرفع الحصة السوقية للعائد المحلي ويخلق وظائف. إعادة الكرامة للفلاح لا تستخلص من دعم مالي فقط؛ بل من تغيير طريقة يتحدث بها المجتمع عن الفلاح، ومن رؤيته شريكًا في التنمية لا مجرد موردٍ رخيص. ذلك يتطلب تعليمًا، فنًّا، وإعلامًا ينتج سرديات إيجابية عن الريف والعمل الزراعي، ويواجه الصور النمطية والشتائم الاجتماعية التي تنقص من قيمة إنسانية كاملة.
عيد الفلاح لا يجوز أن يبقى مناسبة للاحتفاء الشكلي بينما يستمر الفلاح في أداء دوره كقلبِ الأمن الغذائي دون عوائد عادلة أو كرامة ملحوظة. نحتاج إلى عيد يتحول إلى سياسة متواصلة: حزمة إجراءات مالية، أسواق شفافة، تعليم زراعي، إصلاح في البنية الريفية، وحملة وطنية لاستعادة الاحترام. حين يتحمل المجتمع والمؤسسات مسؤوليتهما، سيجد الفلاح أن عيده ليس فقط على الورق، بل في حسن معيشته وكرامته الحقيقية.
-------------------------------
بقلم: هاني منسي
كاتب وناقد