من الحكايات المتداولة التى تفتقر الى الدقة ولا يوجد دليل تاريخى أو موثق يؤكدها حكاية إكتئاب النحات الفرنسى "هنرى جاكمار" الذى نحت أسدى قصر النيل بسبب تعليق طفل حول عدم وجود "شنب" لأحد الأسدين. وهذه القصة ربما تم تداولها لتأكيد أهميه النقد وكتابة الرأى على أى شيء، وأيضا لحساسية الفنان تجاه عمله. الأمر الذى يتطلب التروى فى إبداء الرأى خاصة تجاه الأعمال قيد التنفيذ
وليس عيبا على الإطلاق تعرض الفنان للنقد فهذا ما يكمل عمله، ويثرى الحياة الفنية، ويعمق الوعى الجمالى والثقافى لدى الأفراد والمجتمعات، وتنمية الحس الجمالى الذى ينعكس على الحياة الشخصية.
أردت من هذه المقدمة الحديث عن التمثال المرتبط بإفتتاح متحف الفن الكبير والذى إبتكره النحات ضياء عوض أستاذ النحت بكلية الفنون الجميلة، والذى تم وضعه أمام بوابة طريق مصر الأسكندرية الصحراوى.
نفذ الفنان ضياء التمثال بخامة الحديد بإرتفاع 23.5متر وقاعدة 4متر ليصل الإجمالى الى 27.5متر. وقد قام النحات بتحقيق علاقة بين الفن القديم والفن الحديث، وهذا الأمر مرتبط برؤية الفنان وثقافته، وقد راعى طبيعة المكان وعلاقة المنحوتة بالفراغ المحيط. والتمثال يجمع بين الهوية المصرية القديمة، والتعبير الفنى الحديث لخلق حوار بين الماضى والحاضر. فقد نحت الفنان وجه فرعونى بتفاصيل واقعية دقيقة، وقام بربط الوجه بمنطقة الصدر بتفاصل متداخلة بواقعية الصدر والاسلوب التكعيبى ليمهد للإنتقال الى التكعيبية الخالصة فى بقية التمثال. هذه الصياغة بين شكل معروف بالفعل مع أيقونات تكعيبية رمزية مأخوزة من الأهرامات، والتراكيب الهندسية التى تم الإستعانة بها فى تنفيذ بناء المتحف الكبير.
وهذا الأسلوب ليس بدعة إبتدعها الفنان. فهو أسلوب يجمع بين الأشكال الهندسية والتراث القديم وهو أسلوب شائع لدى العديد من الفنانين المعاصرين. فقد قام الفنان السويسرى الألمانى "بول كلى" أحد رواد الحداثة فى أوائل القرن العشرين بالجمع فى لوحاته التصويرية بين التجريد والأشكال الهندسية، مع الإحساس بأسلوب بدائى يشبه الفنون القديمة، وأعماله تمثل جسرا بين القديم والحديث. والفنان "فرناندو بوتيرو" الذى كان يضخم فى الأحجام والأشكال، ولكنه فى بعض أعماله يعيد تفسير شخصيات تاريخية أو أيقونية بأسلوبه الخاص، مما يخلق حوارا بين الماضى والحاضر، وأيضا الفنان العالمى بيكاسو أحد رواد الحركة التكعيبية التى ثار من خلالها على الأساليب التقليدية للرسم والنحت وإعتمد على تفكيك الشكل الى أجزاء هندسية حادة، والذى إستفاد منه الفنان ضياء عوض فى جزئية تحليل وتفكيك الشكل ولكن بأهداف ومرجعيا خاصة به. وهناك فنانون معاصرون فى مصر إستلهموا من الفن الفرعونى والقبطى والإسلامى لإعادة تقديمها برؤية حديثة مثل النحات الكبيرمحمود مختار وأهم هذه الأعمل تمثال نهضة مصر المنفذ من الجرانيت والذى عبر فيه عن الصحوة والنهضة التى ميزت تلك الفترة، وقد عالج الفنان التمثال بأسلوب من البلاغة التشكيلية التى تنظر الى الماضى فى الفن المصرى القديم وتربطه بمذاهب العصر ومثالياته وإنفعالته. والنحات آدم حنين الذي أعاد صياغة الطيور والحيوانات الفرعونية بطابع تجريدى، والنحات جمال السجينى الذى قام بالإستلهام من الروح الفرعونية خاصة فى أعماله التى ترتكز على رموز مصرية. فقد كان يدخل الأشكال الهندسية والخطوط الحادة ويدمجها مع عناصر تعبيرية مستمدة من الواقع المصرى. وقد كان يستخدم الفن الفرعونى كقاعدة للانطلاق نحو رؤية فنية معاصرة تعبر عن هويته المصرية.
وللفنان جمال السجينى عمل فنى لكوكب الشرق "أم كلثوم" تم تنفيذه بخامة الجبس ثم تم صبه بخامة البرونز، وقد اتبع الأسلوب التكعيبى، وإستطاع الإمساك بلحظة أندماج أم كلثوم فى شدوها. متناولا الأشكال الهندسية التى غلب عليها الشكل الهرمى فى البناء ليؤكد عظمة وشموخ المطربة، كما إستخدم المربع والمستطيل فى النصف العلوى من التمثال، وجاءت كل هذه التفاصيل البنائية لتحقيق القوة والثبات والرسوخ لتمثاله.
لقد إستعان الفنان ضياء عوض بنفس الأسلوب فى بناء تمثاله الضخم، وراعى كمية النخيل التى تحيطه والتى تصنع معه علاقة تضاد وتكامل. فمن حيث الشكل فقد تميز بتصميمه التكعيبى ذى الأسطح الحادة والزوايا القاسية، بينما تتمتع أشجار النخيل بخطوطها العضوية اللينة التى تتحرك مع الرياح. وقام بتأكيد ضخامة النصف الأسفل حتى يتأكد التمثال ويعطى إحساس بالقوة بين كثافة أشجار النخيل. هذا التناقض البصرى بين الأشكال الهندسية الصارمة والطبيعة المتغيرة يبرز حداثة التمثال مقابل أصالة البيئة، وعندما يمتد بصرك لأعلى لتجد الوجه الطبيعى الذى يعيد الحوار فى دائرة يكون هو –أى الوجه- على حدودها وبداخل تلك الدائرة يظهر سعف النخيل مع مساحات من الفراغ. وإذا نظرنا للمضمون سنرى التمثال رمزا للماضى الفرعونى المعاد تفسيره بطريقة معاصرة، ويمثل النخيل جزءا أصيلا من المناظر الطبيعية المصرية التى وجدت على مر العصور، مما يقوى الحوار بين القديم والحديث. وكما قلت فى السابق تعمد الفنان تضخيم الجزء السفلى لمراعاة البيئة المحيطة التى تحيط به وهى النخيل. حتى يتحقق التوازن والتكامل برغم هذا التظاد. فأشجار النخيل تساهم فى تحديد الفراغ مما يمنح المشاهد إحساسا بالحجم والنطاق. فالنخيل ليس مجرد خلفية بل هو جزء من العمل الفنى نفسه، ويعزز رؤية التمثال بصورة جميلة ويبرز الحوار بين الحداثة والأصالة والتاريخ والطبيعة.
لم أتطرق لكيف تم تكليف الفنان بعمل التمثال ولماذ لم تطرح مسابقة فأنا أناقش الجانب الفنى والجمالى للتمثال وقدرة الفنان فى صياغته. أيضا لن أتعرض لما تم طرحه على السوشيال ميديا فما تم من نقد علمى هو حراك صحى لتحقيق أعلى درجات فى التصميم والبناء والجمال.
ولكنى أتعجب من البعض الذى ينتقدون عمل لم يتم الإنتهاء منه حتى كتابة هذه السطور. فالجانب الآخر من التمثال لم يتم الإنتهاء منه وتجد بعض من الفنانين الذين لم يكلفوا أنفسهم بالبحث يقولون وبجزم أن الجانب الآخر للتمثال ضعيف وهم لم يروه أصلا. ترى البعض ينتقد التمثال من خلال صورة ولم يشاهد الدور الذى سيفعه فيه الضوء والظل بالنهار، والضوء الصناعى الذى سيفعله ليلا. فأهمية النور والظل على هذا التمثال الذى يتبنى الأسلوب التكعيبى لا تقل عن أهمية الفراغ المحيط الذى سبق وأن أشرت إليه، فالضوء والظل فى الأوقات المتغيرة من النهار ومع هذا التمثال بالذات ستبرز جماليات تفاعية مع البيئة بأشكال مختلفة فى أوقات النهار، فما كان مضيئا فى وقت ما أصبح معتما فى وقت آخر من النهار نظرا لأن التمثال يتكون من أسطح وزوايا متنوعة يلعب النور والظل دورا مهما فى إبراز هذه الأبعاد وتحديد الكتل بشكل متغير مما يمنحنا إحساسا بالبروز والإنكماش، وخلق ديناميكية وحركة من خلال تغير سقوط الضوء على مدار اليوم. هذا التغير المستمر يعلى من حيوية التمثال ويحقق الديناميكية المتصاعدة والمختلفة فى الصباح والظهيرة وأثناء الغروب. الأمر الذى يحقق قيما جمالية وتعبيرية إضافية من خلال هذا التفاعل. ولا نغفل سقوط الضوء على النخيل لتسقط ظلال النخيل على جسم التمثال من يخلق تراكيب بصرية تضيف بعدا جماليا آخر. ولا نستطيع أن نقول النور والظل مجرد تأثيرات عرضية على هذا التمثال بل هما عنصران أساسيان فى تشكيله البصرى والدلالى .
وحتى ينتهى الفنان الذى لم ألتقيه قبل ذلك نستطيع أن نقرأ المزيد من القراءات الواقعية فقراءتى هذه مبنية على الطبيعة العامة لهذا التمثال من خلال الصور التى أهدتنى الى طبيعة التكوين ودور الفراغ المحيط والنور والظلال التى تلعب دورا مكملا للرؤية الجمالية الصحيحة.
---------------------------------------
بقلم: د سامى البلشى