بعد رحيل أمي، دخلت في حالة من الحزن العميق جعلتني أنسحب من الناس وأفقد رغبتي في القيام بأبسط أنشطتي اليومية. نصحتني صديقة مقرّبة، وهي طبيبة نفسية، ببعض التمارين التي قد تساعدني على مواجهة مشاعر الفقد قبل أن تتفاقم حالتي وتتحوّل إلى اكتئاب.
قالت لي إن الكتابة اليومية وتدوين الذكريات يمكن أن يكونا وسيلة لتفريغ الألم بدلًا من كتمانه، وإن تخصيص وقت للعودة إلى لحظات جمعتني بأمي سيجعلني أشعر بالقرب منها بطريقة مختلفة.
أوصتني أيضًا بالاحتفاظ ببعض متعلقاتها كي أعود إليها كلما اجتاحتني نوبة حنين، وألا أتردد في التحدث عنها مع الأصدقاء والأقارب، فمشاركة الذكريات تخفف وطأة العزلة العاطفية التي يصنعها الفقد. أكدت أن المشاعر لا تُلغى ولا تُمحى، لكنها تتحول إذا سمحنا لأنفسنا بالتعبير عنها، سواء بالكتابة أو بالكلام أو حتى بالبكاء حين تشتد وطأتها، لتصبح مصدر قوة يساعدنا على الاستمرار في الحياة.
ورغم قناعتي بأهمية هذه النصائح، والتي تعد روشتة علاج من متخصصة وبدات بالفعل انفذ ما استطيع فعله منها ، رغم كل ذلك، بقي الحنين إلى أمي هو الجرح الأكثر عمقًا والأصعب مداواة فما زلت أجد أن الحنين إلى أمي هو أقسى ما أواجهه. إنه وجع لا يزول ولا يهدأ. فالفقد ليس لحظة عابرة تنتهي مع مرور الوقت، ولا هو حزن يخفت تدريجيًا حتى يتلاشى. الفقد، في حقيقته، بداية رحلة طويلة مع فراغ داخلي لا يمتلئ أبدًا. الزمن قد يعلّمك كيف تعيش بعد الغياب، وكيف تعيد ترتيب حياتك دون وجود من تحبهم ، لكنه لا يمنحك علاجًا للحنين. ذلك الوجه الأعمق والأشد قسوة للفقد.
الحزن، وإن بدا ثقيلًا في بداياته، يهدأ تدريجيًا. نتعلم أن نكبح دموعنا، ونتعايش مع فكرة أن الغائب لن يعود. أما الحنين فلا يعرف الانطفاء. بل على العكس، يتضاعف وجعه كلما ابتعدت المسافة الزمنية بيننا وبين من فقدنا. إنه نار هادئة تحت الرماد، تشتعل مع كل ذكرى، مع كل مكان، مع كل موقف يعيدهم إلينا في غيابهم.
الحنين يتسلل في تفاصيل الحياة اليومية: ضحكة عابرة تتردد في ذاكرتك، صورة على جدار، أغنية كانوا يحبونها، رائحة طعام ارتبطت بهم، أو شارع كنتم تمرون به معًا. كلها تفاصيل صغيرة قادرة على فتح جراح حسبت أنها التأمت.
والأصعب أن مرور الوقت، الذي يداوي جروحًا كثيرة، يزيد جرح الفقد عمقًا. مع كل يوم تدرك أكثر حجم الغياب، وتشعر أن الحنين يكبر داخلك. لأنك لم تفقد فقط وجودهم، بل فقدت معهم تفاصيل حياة كاملة كانوا هم محورها. غيابهم يحوّل الأماكن إلى شواهد ألم، والمناسبات إلى لحظات ناقصة، والذكريات إلى مرآة تكشف كم تغيّرت الحياة من بعدهم.
الفقد إذن لا ينتهي عند لحظة الرحيل، بل يبدأ منها. يبدأ رحلة طويلة من الصمت الداخلي، من العيش مع ذكرى لا تخبو، ومن حنين يزداد كلما ظننت أنك تجاوزت. وهنا تكمن قسوته: أنه يعلّمك أن الغياب قد يخفت في ظاهره، لكنه لا يهدأ أبدًا في الحنين.
فالحنين ليس مجرد شوق، بل حياة ناقصة تبحث عن ملامحها المفقودة. هو وجع يرافقك دائمًا، يذكرك أن الراحل أخذ معه قطعة من قلبك، وأنك ستعيش بعدها بروح غير مكتملة، تحمل حنينًا يتضاعف كلما حاولت تجاوزه.
------------------------------------
بقلم: سحر الببلاوي