08 - 09 - 2025

في مجلس العلَّامة صقر .. كشفَ حلسٌ نفسه!

في مجلس العلَّامة صقر .. كشفَ حلسٌ نفسه!

  لم يزد عمرُه على أعمارنا كثيرا، وقتما التحقنا بكلية دار العلوم جامعة القاهرة منتصف التسعينيات، فكنَّا نعدُّه زميلا لنا دون أن ينتقص ذلك من قدره، أو يُقلل من مكانته، إذ كان الرجل رغم حداثة سنه عالما بفنون العربية شعرا ونثرا كشيوخها الكبار .
كان الأديبُ والناقد والشاعر د. محمد جمال صقر أعجوبة من أعاجيب الدار، وإن جاز فقل: من أعاجيب الزمان، وهو ما أهَّله ليكون سفيرا من سفراء لغة الضاد المعدودين خارج مصر؛ بفضل معرفته الموسوعية، ومواهبه المتعددة،  والتي كان فيها نسيج وحده .
أجاد صقر كلَّ الفنون العربية، فإذا قال الشعر، أرهف له الشعراءُ السمع، واندهشوا لروعة صوره وأخيلته، التي تتهادي داخل قصائده، وتختالُ اختيال الطاووس بألوانه الزاهية، وإذا دخل حلبة النقد، صال وجال، وأتى بالأعاجيب، كاشفا كم أفاد من أساطين العربية القدامى والمعاصرين، وهو ما تجلى في فصاحة لغته، وروعة سبكه، ونحته في مفردات اللغة نحتا، يحتاج قارئا يقظا؛ ليفهم مراد الصقر من عباراته وجمله.
أمَّا إذا أبحرَ في لجج علم النحو والصرف، تخصصِه الأكاديمي، فأفسح له المجال، ودوِّن وراءه لآلئ  ودررا، جمعها من بطون كتب السلف والخلَف، التي يُطالعها آناء الليل وأطراف النهار بمكتبته العامرة بمنيل الروضة .
كان ( سيكشن ) النحو والصرف لمحمد جمال صقر، ورشة عمل، يُشكل فيها عقول طلابه، فيمحو أفهاما خاطئة، ويرسخ لقواعد علم يقوم على الفهم والمنطق، والتحليل السليم، والحجج الدامغة .
اعتدنا أن نجلس أمامه، وكأنَّ على رؤسنا الطير، فلا نترك فرصة لصارفٍ أن يصرفنا عنه في المحاضرة؛ خشية أن يفوتنا الكثير، فنندم ولات حين مندم، أو مخافة أن يكشف (حلسٌ) المنشغلُ عنه نفسه، فيتعرض للوم أستاذنا، أو غضبه، وهو ما كنا نرفضه كلَّ الرفض؛ إجلالا له وليس خوفا منه !
كانتْ للعلَّامة محمد جمال صقر عباراتٌ وجملٌ لم نسمعها إلا منه وحده، وكانت مجالسُ أبي مذود، بغية القصاد؛ لتحصيل علوم شتي ومعارف عديدة - من شعر ونقد، ونحو وصرف، وعلم لغة - كانت وما زالت زادَنا الأساسي في رحلة البحث والدرس .
تعرَّف عليَّ العلامة صقر في وقت عصيب، ففي أولى محاضراته لنا  بالفرقة الأولي، كنتُ سادر الفكر، منشغلا عنه بالتفكير في الأسرة والأهل، الذين لم أعتد على الغياب عنهم ساعة من نهار، فكيف بي سأغيب عنهم أسبوعا كاملا، بعدما سكنتُ بالمدينة الجامعية .
لمحني د. صقر، وقد زاغ مني البصر، فطرح علي سؤالا يختبر به مدى تركيزي، فوجدني في واد، وهو في واد آخر، ومحال أن نلتقي .
لم ينشغل صقر بنصف الكوب الفارغ، ولم يُعر انصرافي عنه اهتماما، بل انشغل بسلامة لغتي، وتهللت لذلك أساريره، ورغما عن ذلك تفصَّد جبيني عرقا، وازداد وجيبُ قلبي؛ لتيقُنِه من انشغالي عنه أثناء المحاضرة .
خرجتُ من (السيكشن) مكدودا مهدودا لا تقدر رجلي على حملي، إذ كان أخشى ما أخشاه أن يغضب عليَّ الصقر وأنا أحبه !
انقضى أسبوع، والهمُّ يطاردني، فجافى النومُ عيوني، حتى التقيتُه بأتوبيس ( 15)، وكانت رحلتُه من بين السرايات - مقر المدينة الجامعية - إلى رمسيس والعكس، وما إن احتوتني طرقة الأتوبيس، الذي ينقلني إلى محطة رمسيس، ومنها إلى قريتي، حتى أبصرت  د. صقر أمامي جالسا مع أحد زملائه، فمررت بجانبه خائفا أترقب، وحيّيته على استحياء، ثم اتخذتُ لنفسي مقعدا قصيَّا، ألوذ به من خجلي، فغادر هو على الفور مقعده تاركا زميله، وجلس إلى جواري، وتأبطني بذراعه؛ ليُزيل عني الرهبة والخجل، ثم شرع يفيض عليَّ بنصحه وتشجيعه، ويحضني على الجدِّ، عساي أُحصِّل تقديرات في سنوات الدراسة، تؤهلني للتعيين بالكلية.
بيد أنَّ همَّتي الضعيفة، وصوارفي عن المذاكرة، التي لا أعرف لها سببا، قد حالت بيني وبين نبوءة أستاذي صقر، الذي التقيتُه بعدها  بسنوات في إحدى زياراتي للكلية، عقب مقال كتبتُه بالأهرام في رثاء العلامة د. محمد بلتاجي حسن، رحمه الله، دُعيت بسببه للشكر من العميد آنئذ، هناك التقيتُ د. صقر، وتذكَّر ما دار بيننا من حديث، ووعد أخلفته، وفرصة لم أهتبلها، عضضتُ وما زلت بسببها  أناملي من الغيظ .
حفظ الله صقرا، التلميذ المدلَّل  لشيخ العربية، وعقابها أبي فهر محمود محمد شاكر، ذلك الصقر، الذي فتح لنا أبواب البحث في التراث؛ بفضل ما حصَّله من بطون الكتب، ومن شيخه محمود شاكر رحمه الله !

----------------------------------

بقلم:صبري الموجي 

- مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

في مجلس العلَّامة صقر .. كشفَ حلسٌ نفسه!