بساط ضوء،وامرأة من تفّاح
كلّما قامت بكت،وكلّما قعدت بكت.إذ ليس لها سيرة غير يافا،فأقول لها:يا أُمّي!ارحمي حالك،فأنتِ ما زلت في المكان،فَعَلامَ الدموع؟فكانت تلهمني بكلامها، الذي يجعلني أدفّ كأنني فراشةٌ تكتب قصيدتها عن حديقتها:أنتَ لا تعرف يافا التي أعرف! إنها حكاية الزّهر والشباب ، ونوافير الجنون، ومشاوير الصنوبر والجدائل الفائضة على وجهي ، وأوّل الأيائل، وليل الصنّاجة الذين تفرّقوا، ووهج الجدول، وحبور الوحش الأليف، وصدى الحلوى ، وخَدر الأصابع ، واحتفال الغريب ، وعطش الأحلام ، وأنفاس اليَمام .
يافا زمان ؛ بيتٌ واحدٌ لكلّ الناس، ومملكة للقمر الذائب على الشرفات، وفرس لها وطأة الحفر فوق الصدى . كانت سُكّراً للأغاني وحليباً لليل، تركت بصمتها النارية على ألواح مداركي . أما اليوم فهي بقايا حكاية ،كان من الممكن أن تصبح أسطورة.يافا ،يا ولدي! نكهة أنثى الفهد المُثارة ، وسواحل صدر الياقوت، وبؤبؤ ذَهب النرجس ، ومغرب الارتواء والرواية ، ومرونة الشفاه، وسعة الجنّة وأجنحة الطموح وكرم الربيع.يافا أقرب من الوريد، وأبعد من الخرافة . ظلموها، ولم يسمعوا مرافعة في القاعة!
لم تحجب يافا عنّي غرفَتها السريّةَ ، فقد وجدتُ صندوقها وخلاخيلها وثوبها وطرحتها وأساورها، وأكملت زينتها أمامي ،ولبست على ضوء سراجي ، فألبستُها خاتمها وخرجت معها إلى عرس الملائكة ، ورجعنا معاً.. وسمعت أحلامها على وسادة الريح.
سهولها بين ضلوعي تكبر، فتحملني للبحر والبرتقال والشتاء الساخن.
كانت الشمسُ على جدرانها أحلى!
وأمام الموقد الحجري الكبير ،في غرفة بيتنا، الكبرى، كانت صبيّةٌ تقف أمام النار، كما ولدتها السماء، إلى أن ينشر الدفءُ فراءَه على الهضاب والأودية والتلال والسواحل الملساء الناعمة، وفجأة يخرج كائنٌ دخانيٌ على شاكلة رجل، يتفشّى على الجسد النبيذ، ويبدو أن ألف أفعى تفثأ شَّهدها في الضلوع ، وألف مُهْر يخرج من الموج، وثمة مَن نتلوّى وجعاً، ورائحة الكستناء تعمّ المكان، وثمّة نحلةٌ أُغمي عليها !
وثمّة نقطة مطر زرقاء أثارت الحيرة والأسئلة والاستغراب، وبعثت الذهول في الناس ! إنها دمعة يتيم أخذتها الشمسُ عن وجهه في الصيف ، وثمة مطر أحمر في السماء.
وهناك غزالٌ طاب له أن يأخذ عروسه على صخرة.. وبعد فصول ؛ نبت الجوريّ على رخام صخرة البحر. أمّا الياسمين البلدي الفوّاح ،فهو ومضة بَرْق سقطت على الأرض.
كنتُ أخْنس في حضن الأريكة ، والرجل يحرقه الثلج. وحين ينام كان غطيط الشَّهد يملأ المكان.. وتصعد أحلامه مثل غمام خفيف، أتبعه، فألقى نفسي في حلم آخر، يطفو فيه إيقاع وترٍ بعيد.
في يافا،كان علينا أن نشكر السماء على الغيث وضوء البرق وموّال الرعد الصاخب.
وفي نار موقدها المتوهّجة ،وحش كامن في اللبّ تحت اللحاء، يخرج هرباً من الأوار ، فتتلقّاه أحزمة الّلظى وتشمله بثيابها المندلعة..فالجمر تفاح الشتاء المحرّم، بعد أن تنضجه النار، ويرتوي!.
..وأصبحت تجمّعاً بعد أن كانت مجتمعاً ، وأقفاصا حجرية بدل القرميد، وقد ضاقت الأرضُ على إكليل الجبل.. وفقدت غمّازاتها.وباتت سجن الحرّ، وحريّة السجين.قَبّلَها ملاكٌ وكانت نائمةً فصارت عروس الأرض، لكن عاشقها غاب، وبواباتها اختنقت، ومعابدها اختفت .. ويقال إن وحشاً حاول مسافدتها، فأبعدته، وظلّت الندبة ظاهرة على جسدها المشمشي. أحبُّها اليوم أكثر من ذكرياتي فيها.
هل لاقيت يافا وهي صبية مغندرة ؟ كانت زفّة ثلج، ورذاذ توتة ،وغنج سماء..
كانت زرافة بيضاء وبيْدر مراجيح وعيد سنابل وبساط ضوء وامرأة من تفاح.
وصرتُ أرى جغرافيا جديدة ناتئة ، إذ تصاعدت العمارات في كل اتجاه ، كأنها صناديق حجرية وسط شوارع وأزقة كانت رحبة! وأرى وجوهاً لا أعرفها ، ولَكنَاتٍ غير مستوية ، وتجهّماً في السحنات المُسرعة إلى اللاّمكان !
لقد ماتت يافا التي أعرفها! والآن هناك أُخرى مختلفة! قد تكون ضّاجة وممتلئة وحيوية، لكنها ليست الأولى التي راحت .. وهل ستعود ؟
رحم الله الفِطرة والوداعة والإلفة وشوارع القرميد والضباب، وتلك المشاوير التي صحِبتنا بها الطيور!
اليوم في يافا مدينتان، أو مُستويان أو مُجتمعان، الأوّل كأنك تعيش في عاصمة أوروبية من حيث اللباس والسلوك واللغات، والثاني كأنك وسط أبناء المكان الذين ظلّوا في المدينةَ ، مُحتفظين بأشكالهم ونوازعهم وخوفهم،وأخشى أن يتحوّلوا مثل أولئك الغرباء، فيصبحوا مثل مالك الحزين ،دون أن تهجرهم الفجاجةُ والتصنّع والتوهان.وفي المجتمعين، تضيع الهوية، ويغيب الفلكلور والتراث، وتنتفي وحدة اللسان، ولا مكان للانسجام ، ويصبح المُنْتَجُ الثقافي نخبويًّا شلليًّا مُنْبَتًّا عن جذوره وطامحاً في السفر إلى جهةٍ مُبْهمة.
وتحيط بكل ذلك قبضةُ الاحتلال التي تُطبق على عُنق كل شيء، ومؤسسات رسمية وأهليّة تحمل الفلسطينيين إلى مستقبل يبدو مُغلقاً، من دون أمل! بسبب إجراءات الاحتلال وعنصريته وصفاقته .وتُبعث في حياتهم مفاهيم جديدة تسعى لأنْ تجعلهم أبعد عن التطرّف أو الانفجار المقبل ، عبر تقليم مناهجهم وخطابهم وأظفارهم من كل سوء!
ما الذي يكوي الروح ، ويجعلها بؤرة إشعاع يغمر البصيرة، ويشلع القلب من موقعه يا ولدي؟
إنها المدينة ،التي لم يتركوا لنا فيها أيّ شيء.
أمّا الجوهرة؟فقد طمرها الصقيع ، واختفت تحت حريرة الندْف، وعشقتها الأعماق؛ فسحبتها إلى غرغرة المياه والبراكين العميقة..وعزائي أن النداء يقظ كعين العاشق الملهوف ،وضوءها سهم يشق الركام ، ويصعد.
أين راحت بركة الورد الطائش اليتهادى على مهل، كأنه راكد في حلم يتماوج طرباً على صوت أغنية ريفية راقصة؟ ويقول لي :اغمسي قدميك فيها وعابثي المياه، ولملمي دوائر الماء أساور للغابة ،لتكمل زينتها.
مَن يصدق أن الشمس تختنق بسنابلها، وشالها فضاءات لا تنتهي!
إن جراح يافا تؤلم الكوكب.
شربتُ أنفاسَها ،فاكتسبتُ ملامحَها ، وأحبّها!فلا تتركها يا ولدي.
رحم الله تعالى،أُمّي.لقد كانت شمعة تحترق من طرفيها،وكلّما مشت في طرقات المدينة كانت تفغر فمها مثل سائح،وتعجب من التحوّل الذي أصاب الأمكنة.
إنّ الأبد الذي عشته معها تكوّن من تلك اللحظات.
--------------------------------------