04 - 09 - 2025

رسائل من غزة (2) | النزوح ... ترك الجنة وخروج الروح

رسائل من غزة (2) | النزوح ... ترك الجنة وخروج الروح

نقلت التراجيديا قصصا عديدة عن الألم، إلا أن التجارب أثبتت أن أكثر أنواع الألم قسوة وأعظمها صعوبة خروج الروح من الجسد، إذ قيل إنها تعادل عشرات الطعنات في جسد الإنسان.

ولكن أتعلمون ما هو الأشد والأقسى من خروج الروح؟ إنه النزوح القسري.

إن عملية الإجبار على النزوح القسري من بيتك الذي أسسته وبنيته طوبة - طوبة، وحجرا حجرا، تاركا الذكريات السعيدة قهرا، راميا خلفك حلم وحكايات الزمن الجميل وقصص الأيام الخوالي.

هذا المنزل الذي يعادل الجنة في الأرض، إذ أن لك في كل ركن من أركانه قصة وحكاية، وفي كل زاوية حلما وأمل، هذا البيت الذي أسسته بتعب وعرق وجهد السنين، أسسته من دمك الممزوج بدموع العين، أسسته من صحتك وعمرك، وكأنك تؤسس مسارك لجنتك في الأرض، كما أسس إبراهيم عليه السلام البيت العتيق.

أتعلمون يا سادة ماذا يعني أن تجبر على ترك البيت والنزوح؟ إنه الوجع والألم، إنه قهر الرجال، إنه الانتقال من الجنة إلى النار. إذ يُجبر الغزيون على ترك بيوتهم والنزوح تحت وابل من قذائف المدفعية وصواريخ الطائرات الحربية، وروبوتات الموت وكأنها خطافات الصراط، فما أشبه نزوح الغزيين تاركين خلفهم أرواحهم تسكن جنبات بيوتهم، بطريق الصراط يوم القيامة، هذه القيامة التي سبقت غزة العالم إليها.

إذ ينزح الغزيون تاركين خلفهم أحلامهم وذكرياتهم وآمالهم، ينزحون تاركين خلفهم شقاء العمر والسنين، ينزحون تاركين خلفهم الاستقرار والخصوصية والمأوى الأمين، تاركين الجنة.

إذ يجبر الغزيون على النزوح نحو المجهول، خارجين نحو الجحيم، ويخرجون من بيوتهم شاخصة أبصارهم ويسيرون نحو الألم والقهر، يترقبون بأفئدتهم وعيونهم ملاذهم الآمن متسائلين: هل إلى رجوع من سبيل؟

يودع الغزي جنته، خارجا والرعب يملأ الفؤاد والقلق يهيم باللُباب والرعب يعتلي الجنبات، يتردد في عقلهم سؤال واحد، هل سنعود؟

أتعلمون يا سادة ماذا يعني النزوح ... كلمات سمعتها من الصغار قبل الكبار ... " النزوح ... ترك الجنة وخروج الروح ". 

في النزوح ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب النزوح أليم، حيث ترى نساء وأطفالا وشيوخا من بيوتهم خارجين، وعلى وجوههم في الشوارع هائمين، بعضهم بدمائهم مضرجين، وعلى ظهورهم وأكتافهم المتعبة يحملون أمتعتهم، تراهم خائفين جائعين منهكين، ومن هول الموقف أكاد أجزم بأنهم الموتَ يتمنون.

في النزوح ترى جموعا بشرية في الطرقات تائهين مشردين حائرين، يتمنون مكانًا فيه الخلاص وإلى الأمان يهتدون.

البيت وطن، كلمات سمعناها منذ الصغر من الكبار والأجداد، لم نفهم معنى هذه الكلمات، حتى جاء وقت النزوح ومعاناته وقسوة محطاته، حيث علمنا وقدّرنا كل حرف من هذه الكلمات، البيت وطن فلا مكان يعادل الجنة سوى البيت، ولا حياة بدون البيت ولا استقرار ولا أمان بضياع البيت.

في النزوح وبعد وصول الناس إلى منطقة يعتقدون أنها آمنة، تبدأ رحلة طويلة من المعاناة، من لا يمتلك المال وحتى بل من يمتلك الكثير منه ليس له إلا أن يفترش التراب ويلتحف السماء نظرا لضيق المساحة الجغرافية المتبقية في غزة بفعل آلة الحرب الاسرائيلية التدميرية القاسية، بالإضافة إلى الأعداد البشرية الهائلة المحشورة في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة.

حيث يرتفع سعر إيجار المتر الواحد من الأرض مئات المرات، فقط ميسوري الحال من يتمكن من الإيجار، وبعد الإيجار والاستئجار عليك توفير خيمة والتي تضاعف سعرها عشرات المرات وكذلك مستلزمات ترتيب المكان، لتدور بعدها في حلقة من المعاناة اليومية القاسية محاولا توفير مستلزمات البقاء على قيد الحياة - الماء والغذاء-إذ أن محاولة توفير الماء سواء للنظافة الشخصية أو الشرب قصة معاناة جديدة، فهي عملية مرهقة وطويلة قد تأخذ منك نصف يومك، وذلك في محاولة توفير لترات معدودة من المياه لا تكفي للشخص الواحد فما بالك بأسرة كاملة، وبالتوازي مع رحلة البحث عن المياه هناك رحلة البحث عن الغذاء والوقوف ساعات طويلة أمام تكايا الطعام للحصول على بعض من الغذاء لا يسمن ولا يغني ومن جوع، رحلة معاناة يومية تمتهن كرامة الإنسان ويهان فيها الكريم ابن الكرام ويقهر فيها الرجال.

حياة النزوح والعيش داخل الخيام تنعدم فيها الإنسانية والكرامة البشرية، حيث لا خصوصية، أتدرون يا سادة ماذا تعني الحياة بلا خصوصية ولفترات زمنية مجهولة.

في حياة النزوح وداخل الخيام تنعدم جميع مقومات الحياة العصرية والبدائية، كما وتعرفون أن الخيام لا تقي من حر الصيف ولا برد الشتاء، ففي الصيف لهيب الشمس الحارقة يكوي أجناب الناس، وبسبب قلة عوامل ومتطلبات النظافة الشخصية تنتشر الأمراض الجلدية بشكل واسع جدا، كما أن رياح الشتاء القاسية تقتلع الخيام أو تمزقها كليا أو جزئيا، وتتسرب المياه وتغرق الخيام بمن فيها وما فيها، وكذلك تنتشر أمراض الشتاء الموسمية المعدية.

أهل غزة المُتعبون المجروحون التائهون المُضيعون المُغيبون والمُشتتون، الضميرَ الإنساني يستصرخون والعطفَ والرحمة يطلبون، فهل من مغيث.

ساعدونا لنحيا بكرامة، ساعدونا لنعيش بإنسانية كما البشر، أعطونا الأمل بعيش كريم، أعطونا الأمل بحياة أفضل، أعطونا الأمل بمستقبل واعد.
-------------------------
بقلم: 
د. محمد راضي
غزة 2 / 9 / 2025

مقالات اخرى للكاتب

رسائل من غزة (2) | النزوح ... ترك الجنة وخروج الروح