يطوف بنا الباحث والأكاديمي الإماراتي الدكتور عبد القادر الخياط في رحلته البحثية المعمقة التي طرحها في كتابه الجديد "الطور والزيتون.. نظرات وتفسيرات" حول النص القرآني ومدلولاته الغزيرة في عدد من القضايا العلمية والقرآنية الهامة مثل: الزيتون القرآني، والطور، وحق النبات المنسي في القرآن كما أشارت له ودعت إليه آيات الكتاب الحكيم.
الكتاب صدر حديثا (أغسطس 2025) عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، استعرض فيه المؤلف قضية وماهية الزيتون القرآني الذي ذكره القرآن في مواضع عدة، منها قوله تعالى (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) (الأنعام: 99).. وقضية حق النبات في القرآن التي دعانا إليها، مثلما ورد في قوله عز وجل (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام:141)، وقضايا علمية أخرى طالتها يد المؤلف بالبحث والتدبر كـ جبل الطور والتأويلات الدينية والجغرافية المتعددة حوله، وسرديات خروج بني إسرائيل كما جاء في الأديان السماوية ودلت عليها التفاسير المختلفة وناقشها علماء الدين.
يشير الباحث والكاتب الدكتور هاني نسيرة في مقدمته للكتاب أن د. الخياط استعان بـ" النظر العلمي الباحث المتجرد وليس المكتفي بالتعجب والتسليم دون بحث" في مناقشة موضوعات الكتاب، وفي هذا النهج يخالف الذين ينضوون تحت مظلة الإعجاز العلمي للقرآن ولا يمارسون فريضة التدبر والبحث التي حثنا الله تعالى عليها، والتي لا شك تفتح لنا أفاقا واسعة للمعرفة.
فنجد المؤلف يتناول بالأدوات البحثية المنظمة قضية طور سيناء وتأويلاتها المختلفة، ويميز بين مقاصد الألفاظ القرآنية، فنجده يبين لنا أن هناك طورا "أيمن" وطورا "أيسر"، كما وضع خريطة افتراضية للجبل تتفق مع مضمون الوصف القرآني ومحددات العلم الحديث. كما ينتقل بنا إلى قصص الخروج ومساراته المحتملة، وما يثار فيه من الباحثين عربا وغيرهم، ومناقشة جغرافيا التوراة بمنهج بحثي متجرد.
ركز الكتاب في فصوله الاثنى عشر على مسألة هامة؛ ضبط وتحقيق المفهوم واللفظ القرآني، مستعينا بالقديم والحديث من الشروح والتفاسير في المعاجم اللغوية المختلفة. فنجد المؤلف يوضح مقاصد مفاهيم كثيرة، مثل "الصبغ والدهن" كما ورد في قوله تعالى (تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ) (المؤمنون: 20).. "التشابه والاشتباه" كقوله تعالى (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).. والكثير من المفاهيم التي يدور حولها الجدل عن البعض وتدل على مقاصد كثيرة تفتح الطريق أما البحث والتأمل.
لم يستكن الكاتب إلى التأويلات التي صاغها المفسرون القدماء فقط حول المسائل القرآنية موضع البحث، بل قدم لنا فرضيات علمية جديدة تتماشى مع ما وصل إليه العلم الحديث من منجزات تقنية ومعرفية. فها هو يفترض بقوة أن الشجرة التي تنبت بالدهن وصبغ للآكلين هي شجرة "نخيل الزيت" وليست شجرة الزيتون الأخضر المعروف، وذلك استنادا إلى عدد من الحقائق الجغرافية والعلمية التي تدعم هذا التصور ساقها في بحثه، خاصة وأن النص القرآني لم يسمها ويحددها بأنها شجرة الزيتون الأخضر.
لم يكن هذا النوع من التفسير متاحا فيما سبق، ولم تكن أشجار نخيل الزيت مترسخة في الذهن الإسلامي، ولا ريب يدفع هذا التفسير بنا إلى التعرف عن كثب لهذه النبتة القرآنية المنتشرة في إندونيسيا وماليزيا والعديد من المناطق الإفريقية، وربما تغير بعض أنماطنا وعاداتنا الغذائية والاقتصادية.
من النتائج الهامة التي توصل إليها د. الخياط وأوضحها بالبحث المطول في سياق الكتاب هي أن الخطأ التاريخي في تعريف "الزيتون القرآني" أنه الزيتون الأخضر، نتج عنه ترويج وتعظيم – بل تقديس أحيانا – لزيت الويتون الأخضر وسائر منتجاته، وتبني عادات غذائية ودوائية مرتبطة بقدسيته الدينية، رغم أنه لم يذكر كطعام في القرآن الكريم، ولا في غيره من الكتب السماوية، لكنه نوه أيضا أن الدراسات الصيدلانية تبين الأهمية الصحية والغذائية لزيت الزيتون الشامي.
هذا البحث يثير العقول ويدفعها إلى البحث والتدبر أكثر لقضايا الدين ولآيات القرآن الكريم، وهي فضيلة دينية دعانا الله إليها وحثنا على انتهاجها بالتفكر والتدبر، ومسألة "الطور والزيتون" ما هي إلا قضية من بين قضايا كثيرة تستحق البحث العلمي المنضبط، دون البعد عن روح القرآن ومقاصده الشريفة التي بها نسمو ونرتقي دائما.
-----------------------------
قراءة: محمد عبد الكريم







