بينما يترأس النتنياهو اليوم اجتماع الكابينت للمصادقة على الخطة العسكرية لاحتلال مدينة غزة (في موقع سري محصّن خشية انتقام الحوثيين)، تؤكد 'يسرائيل هيوم' أن مصر "المستشيطة غضبًا" أبلغت واشنطن رفض حماس التفاوض تحت الشروط الإسرائيلية التي تتطلب نزع السلاح وإبعادها عن السلطة. ونقلت الصحيفة العبرية عن مصدر دبلوماسي أن المصريين أرسلوا للإدارة الأمريكية "تحديثًا من حماس" (مع تلميح بأنه يحظى برضاهم)، يفيد بتمسّك الحركة بشرطيْن أساسييْن للموافقة على مفاوضات إنهاء الحرب: "التزام إسرائيلي بإكمال الانسحاب من غزة مسبقًا، والسماح لمقاتليها بالبقاء في القطاع 'لحفظ النظام' خلال فترة إعادة التأهيل". إن صحّ الخبر، فهو بمثابة "نقلة شطرنج هجومية" على لوحة صراع ملتهب سقطت فيه العديد من البيادق والأحصنة وربما الأفيال.
لكن ما تداوله الإعلام العبري خلال اليومين الماضييْن على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق وزعيم المعارضة الحالي 'يائير لابيد' بأنه تلقى اتصالا من مسؤول مصري رفيع يسأله عن أسباب "تمنّع" النتنياهو عن استقبال مكالمات القاهرة "لمدة أسبوعين كاملين"، وتعنّته إزاء صفقة الأسرى الجزئية (التي تتضمن إعادة عشرة رهائن أحياء وجثث 18 قتيلاً، وتشمل وقفًا لإطلاق النار في غزة لمدة 60 يومًا يتم خلالها التفاوض حول الباقين من المحتجزين لدى حماس وبحث نهاية للحرب برمتها)، يكشف أكثر ما يكشف عما يشبه حالة من "اليأس الممزوج بالعجز" التي تخيّم على الموقف المصري فيما يتعلّق بملف غزة. التقارير التي تزامن نشرها في كل من 'هآرتس'، و'تايمز أوف إسرائيل'، و'القناة 12' الإسرائيلية، تحمل في مضمونها رسالة واحدة: "مصر تشعر أنّ 'بيبي' يتلاعب بها"، وهو ما يمكن استشفافه بسهولة من كلام المسؤول المصري "الرفيع" الذي نقل عنه 'لابيد' قوله: "ما تُسمونه 'خطة ويتكوف' وما نُسمّيه نحن 'خطة نتنياهو'، ما هي إلا إملاءات من نتنياهو. ستيف ويتكوف تولّى تقديم بنود المقترح حتى لا يبدو أن حماس تقبل ما يطلبه رئيس حكومتكم.. وبعد أن وافقت حماس على 98% من المطالب، اختفى نتنياهو". "هل قرر رئيس وزرائكم إفشال خطته بيده؟! إنه سلوك غريب وغير مقبول".
الحقيقة أن غضب القاهرة من تصرفات النتنياهو لا يخفي واقعًا أعمق ومشهدًا أكثر إزعاجًا، اختصرته 'الإيكونوميست' في عبارة "لا أحد راضٍ عن دور مصر في غزة". ففي مقالها المنشور (أمس السبت 30 أغسطس) بعنوان "العملاق المريض"، تناولت المجلة البريطانية - بمنظار تحليلي لا يخلو من وقاحة المكاشفة - ما وصفته بعوامل تراجع النفوذ مصري في الملف الفلسطيني، ومحدودية أدواتها في الضغط على إسرائيل بشأن غزة.
والملاحظ أن المقال يحمل في طيّاته قدرا من التناقض بين استعراض أبعاد ومظاهر "أفول" الدور المصري، وبين الاعتراف بأن مصر "فعلت الكثير من أجل غزة مقارنة بمعظم الدول العربية: استضافة مفاوضات، تمرير 550 ألف طن من المساعدات، المساهمة في صفقات الأسرى"!!
في المحصّلة، ترى 'الإيكونوميست' أن مصر باتت عاجزة عن الاضطلاع بدور "المرجعية" أو "الحَكم" كما اعتادت سابقًا لأنها "محاصرة" بين أزمة اقتصادية خانقة (دين عام يقارب 87% من الناتج المحلي)، ومخاوف من الانزلاق الأمني أو المواجهة العسكرية (في حال تهجير الفلسطينيين)، وتوجّس من مؤشرات غضب الرأي العام الداخلي تجاه الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة (أي المجاعة والإبادة). لكن المجلة الرصينة - في المقابل - تتهم إسرائيل صراحةً بأنها السبب في مجاعة غزة بمنعها دخول المساعدات والغذاء منذ مارس الماضي، وبأنها تلجأ لحيلة إلقاء اللوم على مصر. فتستشهد بتغريدة المتحدث الإسرائيلي السابق 'إيلون ليفي': "لغزة حدود مباشرة مع مصر، فلماذا تغيب هذه الحقيقة البسيطة عن أذهان من يتظاهرون بالغضب لعدم وصول المساعدات؟"، ثم ترد عليه: "ما تجاهله ليفي أن كل شاحنة تدخل من رفح تمر أولاً بمراكز التفتيش الإسرائيلي المتعنّت. لقد وجدت مصر نفسها في مأزق: متهمة بالتقصير، وهي في الحقيقة مُقيّدة باتفاقيات دولية وبحسابات أمنية داخلية". (وهنا تتبع المجلة أسلوب "اضرب ولاقي"، فتذكر أن مساهمة مصر الإنسانية كانت من بين الأكبر عالميا وإقليميا بنسبة 19% من إجمالي مساعدات الأمم المتحدة، "لكنها لا تُقارن بالإمارات مثلا التي قدمت مساعدات بقيمة 678 مليون دولار")
ويستفيض مقال 'الإيكونوميست' في تعديد الشواهد على تآكل النفوذ المصري، ومنها "منافسة الوسيط القطري" برغم اعترافها بأن "السيسي انتزع لحظة انتصار تكتيكي على الدوحة، حينما نجح في انتزاع موافقة حماس على هدنة لمدة 60 يوماً"، وكذلك قلّة حيلتها في "إقناع حماس بالتخلي عن السلطة والسلاح"، فضلا عن هوانها على النتنياهو في "إقناعه بتحدي ائتلافه اليميني المتطرف وإبرام الصفقة الجزئية".
وترصد المجلة البريطانية في سياق تحليلها النقدي عامليْن أساسييْن يقيّدان حركة مصر وينالان من عزيمتها؛ أولهما "قلة ذات اليد الاقتصادية وحاجتها للاعتماد على مصادر خارجية لتنفيذ أفكارها" (تستشهد في ذلك بخطة إعمار غزة التي طرحتها في مارس لمواجهة مخططات التهجير الإسرائيلية والريفييرا الترمبية، والتي شملت إزالة 53 مليون طن من الأنقاض خلال عامين وهو ما يتطلب ميزانية لا تملك تمويلها ما يجعلها تعتمد على دول الخليج)، وثانيًا "الضغط الداخلي" وبالتحديد استياء بعض المصريين مما يعتبرونه تخاذلًا في اتخاذ إجراءات دبلوماسية شديدة تجاه إسرائيل نصرةً للغزيين الجوعى، وتقاعس القيادة عن إدخال المساعدات بأسلوب الأمر الواقع دون انتظار موافقة الصهاينة (وهنا لا يفوت المجلة التذكير بأنه "غضب شعبي غير محسوب العواقب").
--------------------------------
بفلم: هاني الكنيسي
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)