دائما ما تكون أفعال الفرد السويِّ موافقة للفِطرة، وهكذا كانتْ أفعالي، ولا أزعم لنفسي - هنا - السواء المطلق، وإن كنتُ أحرص عليه كلَّ الحرص؛ ليقيني في قرارة نفسي أنني كبير، ولا يليق بكبير أن يفعل أفعال الصبيان .
نعم بدرتْ عني في صغري هَنَات، بحكم الطبيعة البشرية، لكنها إذا قورنت بالمجمل، فإنها قليلة، والحمد لله.
من الطباع، التي نشأتُ عليها - والفضل في ذلك، بجانب الفِطرة السويّة، إلى رعاية وتوجيه والدين، لم يكن لهما حظٌ من التعليم، لكنهما حازا قصب السبق في تربيتي على مبادئ الحلال والحرام، والجائز وغير الجائز، الصح والخطأ، وإن قصرتُ كانت العصا هي وسيلة التقويم الوحيدة - مقتُ سؤال الغير، وإراقة ماء وجهي بالطلب، حتى وإن كنتُ أشدَّ الناس حاجة لهذا المطلوب، وحقا القناعة كنزٌ لا يفنى !
وبعد اتساع مداركي، وكثرة اطلاعي، وجدتُ لذلك أصلا في الشرع، يُعرف بذمّ المسألة، وعدم استحباب طلب العون من الغير، مادامت ليس هناك ضرورة ملحة، وصدق القائل :
لا تسألن بُنيّ آدم حاجــــة / وسل الذي أبوابُه لا تُحجـــب
الله يغضبُ إن تركتَ سؤاله/ وبُني آدم حين يُسأل يغضب
والدافع وراء تلك المقدمة الطويلة، أنّ شخصية اليوم، هو الذي مدّ لي يوما يد العون دون أن أطلب، وأسداني النصح في وقت عزّ فيه الناصحون !
ودعونا ننقل دفة الحديث من الكلام عني، إلى الكلام عن شخص له عليَّ كبير فضل، وكانت نصيحتُه وتوجيهه حلقة في أذني، ودليلا صحح مساري في مقتبل العمر، أثناء بحثي عن فرصة عمل عقب تخرجي في الجامعة .
لم تدم معرفتي بالمغفور له بإذن الله أ. مجدي بحيري أبو توت طويلا، فما إن توطدتْ بيننا أواصرُ المودة والأخوة، حتى رحل عن دنيا الناس في صمتٍ، يكشف كم كان الرجلُ نبيلا صابرا على قضاء الله وقدره، إذ ابتُلي بالمرض فصبر، وخلال عمره القصير، بَيْد أنه رحل عن دنيا الناس في ريعان الشباب، أصًل لقيم الأخوة والوفاء، وإسداء النصح لمن سأله، ومدِّ يدِ العون لكلِّ مُحتاج .
لم تُنسه المِلعقة الذهب، التي أكل بها، بوصفه نجلا لأحد أعيان القرية الكبار، فهو ابن الحاج بحيري أبو توت، رحمه الله، صاحب الأراضي والعِزب، التي تمرح فيها الخيل، أقول لم تُنس مجدي بحيري هذه الحياة المترَفة البسطاء، فكان ملجأ كلِّ مستغيث، وأسخى الناس يدا، يُعطي في السرّ والعلانية، ولا يألو جهدا في مساعدة المحتاج، ومسح دمعة السائل، وبذل المال والجهد لرسم البسمة على وجه كلِّ من قصدَ بابه .
الحاج مجدي بحيري، جمع من صفات النبل والكرم والجود، ما كان إرهاصا بأنه سيرحل سريعا عن دنيا الناس، حيث اللؤم، والضغينة والشحناء، إلا من رحم ربي، وهي خصالٌ لا تروق لمن كانت فطرته سوية وخلقه نبيل مثل المغفور له مجدي بحيري - طيب الله ثراه – وجمعنا الله وإياه تحت ظل عرش الرحمن، بعد طول عمر وحسن عمل .
تخرج الفقيد في كلية الحقوق، وتاقتْ نفسُه للعمل بالنيابة، فتأجج في نفسه صراع داخلي بين طموحه، وخوفه من أن يجور يوما، أو يظلم أحدا لعدم استيفاء الأدلة، فصرف نظره عن الفكرة برُمّتها، وقال .. لأن أخرج من الدنيا دون ظلم أحد، أحب إليَّ من حطام الدنيا الزائل، ونعيمها الفاني .
المغفور له بإذن ربه مجدي بحيري أبو توت، ما زلتُ أراه، رغم رحيله من زمن بعيد .. أناقةٌ في الملبس، لا يناظره فيها أحد، خاصة عندما يرتدي الجلباب البلدي واسع الأكمام، والقفطان ناصع البياض، سدادُ رأي، فاق فيه الكبار، حبُّ للخير آناء الليل وأطراف النهار، مسارعةٌ في إغاثة الملهوف، حنجرة ذهبية، أعطته فخامة صوت، لو استثمره في الإذاعة؛ لكان أفضل المذيعين بلا منازع، صلةٌ للرحم، وفضلا عن هذا تواضعٌ جم، يُثبت كرم أصله .. رحم الله الفقيد، ووسع له في قبره .
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام