01 - 09 - 2025

اختلاف الفقه واللاهوت حول الختان والمثلية والإجهاض * من يفسر المقدس؟

اختلاف الفقه واللاهوت حول الختان والمثلية والإجهاض * من يفسر المقدس؟

- كاهن قبطي: الختان ليس من المسيحية.. والمثلية ميل لا يستوجب إدانة.. والإجهاض اعتداء على الروح منذ التكوين.
- عمرو إمام: الإنسان هو الغاية وكل خطاب ديني لا يبدأ من هنا يفقد صلته بالرحمة والعدل
- مظهر شاهين: ختان الإناث عادة ضارة لا عبادة، والمثلية انحراف، والاجتهاد حق للمؤهلين لا لكل من هب ودب

في كل لحظة جدل مجتمعي حاد، يتكرر المشهد، قضية أخلاقية تشتعل، فتاوى وبيانات تصدر، والنصوص الدينية تستدعى لحسم المواقف، من ختان الإناث إلى المثلية الجنسية، وصولا إلى الإجهاض، يبدو دائما أن "النص المقدّس" هو الفيصل.. لكن الواقع لا يقول ذلك. النص، مهما بلغت قداسته، لا يتكلم وحده، من يتكلم باسمه هو المؤسسة الدينية، وكل مؤسسة تقرأ النص من الزاوية التي تخدم تصورها الاجتماعي واللاهوتي والسياسي.. وهنا لا نكون أمام "كلمة الله" في صيغتها المجردة، بل أمام تأويلات تنتج وجه المجتمع وحدود المسموح والمرفوض فيه..

-  ختان الإناثحين يستخدم الدين لتبرير العرف

الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تعلن بوضوح رفضها لختان الإناث، وتعتبره عادة فرعونية لا تمت للمسيحية بصلة، اللاهوت المسيحي لا يحتوي على أي سند يربط بين الطهارة الجسدية والقطع أو التشويه، ومع ذلك، تستمر الممارسة في بعض الأوساط الريفية المسيحية، لا بدافع العقيدة، بل تحت ضغط ثقافة "العيب" والتقاليد..

أما في السياق الإسلامي، فالصورة أكثر تعقيدا، دار الإفتاء المصرية تعتبر الختان عادة ضارة ومرفوضة، لكن بعض المشايخ لا يزالون يستندون إلى أحاديث ضعيفة أو أقوال فقهية لتبرير استمراره، بوصفه "سنة" أو "مكرمة"، في الحالتين، لا يظهر النص المقدس بوصفه مرجعا قاطعا، بل يتم انتقاؤه وفق ما يناسب المنظومة الاجتماعية..

المثلية الجنسيةهل الخطأ في الميل أم في الفعل؟

في قضية المثلية الجنسية، تتفق المؤسسات الدينية الكبرى على الرفض، لكن تختلف في زاوية المقاربة.. الأزهر يتبنى موقفا يعتبر المثلية "انحرافا سلوكيا محرما شرعا"، مستندا إلى قصة قوم لوط في القرآن، دون التفريق غالبا بين الميل والرغبة من جهة، والسلوك والممارسة من جهة أخرى، اللغة المستخدمة في الخطاب الرسمي والأزهري تميل إلى الحدة، وتدين المثلي لا فقط كمخطئ دينيا، بل كمهدد لمنظومة الأخلاق..

أما الكنيسة، فتعالج المسألة من زاوية لاهوتية تميز بين الإنسان وفعله، المثلية تعرف كـ ميل غير مرغوب فيه، يطلب من صاحبه ألا يترجمه إلى ممارسة، بل أن يخوض صراعا روحيا لكبحه، لا يعترف بالمثلية كهوية، بل ترى كتجربة أو اضطراب يحتاج إلى دعم روحي أو تقويم نفسي..

الإجهاضبين قداسة الحياة وحدود الاجتهاد

في قضية الإجهاض، تظهر تباينات جوهرية بين الكنيسة والمؤسسة الإسلامية.. الكنيسة القبطية ترى أن الحياة تبدأ منذ لحظة الإخصاب، وترفض الإجهاض تماما، حتى في حالات الاغتصاب أو الخطر الطبي، انطلاقا من مبدأ لاهوتي يعتبر الجنين روحا كاملة، وقتله فعل يتعارض مع الوصايا الإلهية..

أما الفقه الإسلامي، فتنفتح فيه مساحة للاجتهاد، يفرق عدد من الفقهاء بين ما قبل وما بعد "نفخ الروح" (اليوم 120 من الحمل)، ما يفتح بابا للترخيص بالإجهاض في بعض الحالات الطبية أو الاجتماعية، خاصة إذا كان في الحمل ضرر مؤكد على الأم،  هنا، تستخدم أدوات مثل "المصلحة" و"رفع الحرج" لتوسيع أفق القرار الديني، وهو ما لا يتوفر بنفس المرونة في الموقف الكنسي..

في جوهر الأمرمن الذي يفسر؟

القضية ليست في النصوص نفسها، بل فيمن يملك سلطة تفسيرها وتحديد معناها وسياقها وحدود تأثيرها، النصوص لا تحكم الواقع، بل تعاد قراءتها بما يتناسب مع مصالح المؤسسات الدينية، وتصورها للأخلاق والمجتمع..

ثوابت لاهوتية

علق كاهن قبطي أرثوذكسي، رفض ذكر اسمه، إن تأويل النصوص في قضايا مثل الجسد والهوية يخضع أحيانا لمعادلات اجتماعية أكثر منه لثوابت لاهوتية، موضحا: في الكنيسة، نؤمن أن الجسد ليس شيئا نجسا، بل هو هيكل للروح القدس، وبالتالي كل ما يخص الجسد يجب أن يفهم في ضوء الكرامة لا القمع.

وأضاف: "لا يوجد سند كتابي يدعم ختان الإناث، بل العكس، هناك رفض واضح لأي عنف أو تشويه للجسد.. لكن الكنيسة تصطدم أحيانا بتقاليد المجتمع، خاصة في الأقاليم، حيث يختلط الدين بالعرف، ويمارس ما لا تؤمن به الكنيسة صراحة، دون قدرة كافية على المواجهة..

أما عن المثلية، فقال: الكنيسة تميز بين الشخص والفعل، الميل المثلي لا يحاسب عليه الإنسان، بل يدعى إلى حمل صليبه ومقاومة ميوله، كأي تجربة بشرية، لكننا لا نؤمن بالمثلية كهوية أو كحق يُطالب به في المجال العام..

وتابع: نحن ندعو للرحمة لا للإدانة، لكننا لا نساوي بين القبول والمحبة، وبين التبرير والتطبيع وهذا خيط رفيع يصعب على البعض فهمه..

وحول الإجهاض، أكد: الحياة في المفهوم المسيحي تبدأ من اللحظة الأولى، من التكوين داخل الرحم، ولذلك نرفض الإجهاض كمبدأ عام.. لكن في بعض الحالات القصوى التي تتعرض فيها حياة الأم للخطر، نحيل القرار لضمير الأطباء والأسرة، مع توجيه رعوي، وليس بسلطة قسرية..

وختم قائلًا: النص لا يفسر نفسه بنفسه، بل يفهم في ضوء محبة المسيح، وأي تفسير ينتج إدانة أو عزلة أو قسوة، يحتاج لمراجعة، لأن روح الإنجيل ليست حرفا يطبق، بل حياة تعاش..

فوائد طبية

وقال الدكتور مظهر شاهين، إمام وخطيب مسجد عمر مكرم وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إن مسألة الختان يختلف الحكم فيها بين الذكور والإناث، موضحًا: "بالنسبة للذكور، يُعتبر الختان من سنن الفطرة في الإسلام، وقد اتفق جمهور العلماء على أنه واجب أو قريب من الوجوب، لما ورد في الحديث: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر). كما أن له فوائد طبية معتبرة، تتعلق بالنظافة الشخصية والوقاية من بعض الأمراض".

وأضاف: "أما ختان الإناث، فالوضع مختلف تمامًا. فهو ليس له أصل في القرآن، وأحاديثه النبوية إما ضعيفة أو غير ملزمة شرعًا، كما أن الأطباء يحذّرون من أضراره الجسدية والنفسية. لذلك، اعتبره كثير من العلماء عادة اجتماعية لا عبادة، بل وقد يُعدّ مخالفًا لمقاصد الشريعة التي تؤكد على (لا ضرر ولا ضرار). ورغم وضوح الموقف الشرعي والطبي، لا يزال ختان الإناث يُمارَس في بعض المجتمعات، بدافع الحفاظ على الحياء أو العفة، وهي مفاهيم يجب أن تُغرس بالتربية والوعي، لا بالجراحة أو الإكراه".

سلوك محرم

وحول مسألة المثلية الجنسية ولماذا تُعرض دائمًا كخطر مجتمعي، علّق شاهين قائلًا: "في الرؤية الإسلامية، تُعدّ المثلية سلوكًا محرَّمًا، وقد ورد ذكرها في القرآن في سياق قوم لوط، حيث وُصف الفعل بأنه (فاحشة). ويستند هذا الموقف إلى الحفاظ على الفطرة الإنسانية، والأسرة الطبيعية، والتوازن بين الجنسين".

وتابع: "ومع ذلك، فإن الشريعة الإسلامية لا تبرر الاعتداء على الأشخاص أو إهانة من يحملون هذه الميول، بل تُفرّق بين رفض السلوك واحترام كرامة الإنسان. فكل إنسان له حق في الحماية من العنف والإذلال، حتى وإن خالف الشرع. أما اجتماعيًا، فالمجتمعات الشرقية تنظر للمثلية كتهديد للمنظومة الأخلاقية وللاستقرار الأسري، خاصة مع محاولات فرضها كهوية علنية دون اعتبار للسياق الثقافي والديني. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض حالات المثلية تعود لأسباب نفسية، أو صدمات في الطفولة، أو اضطرابات عاطفية، تستدعي علاجًا نفسيًا لا هجومًا مجتمعيًا". وأكد أن التحدي الحقيقي هو "في بناء خطاب يوازن بين التحصين الأخلاقي، والرحمة الإنسانية، دون إفراط أو تفريط".

نفخ الروح

أما عن مسألة الإجهاض، فأوضح شاهين أن الإجهاض قبل نفخ الروح هو محل اجتهاد معتبر في الفقه الإسلامي، لكن بشروط وضوابط، مضيفًا: "فقد اتفقت المذاهب الفقهية على أن الروح تُنفخ في الجنين بعد 120 يومًا (أي أربعة أشهر)، وأن الإجهاض بعد ذلك لا يجوز إلا في حال تعرّض حياة الأم للخطر".

وتابع: "أما قبل هذه المدة، فقد أجاز بعض العلماء الإجهاض خلال الأربعين يومًا الأولى، إذا وجدت أسباب قوية، مثل وجود تشوهات خطيرة بالجنين، أو مخاطر صحية على الأم، أو ظروف اجتماعية وإنسانية قاهرة. في المقابل، اشترط آخرون ضوابط صارمة، كي لا يتحوّل الإجهاض إلى وسيلة عبثية أو تهرّب من المسؤولية. ومن الناحية الاجتماعية، يُعتبر الإجهاض العشوائي خطرًا على صحة المرأة واستقرار الأسرة، ويثير جدلًا بين (حق المرأة في جسدها) و(حق الجنين في الحياة). ولهذا فإن تنظيم الإجهاض في هذه المرحلة وفق رأي طبي موثوق، وتحت مظلة الشرع، يحقق التوازن بين الحفاظ على النفس، واحترام الحياة، ومراعاة الكرامة الإنسانية".

الاجتهاد

وحول سؤال هل توجد مساحة لاجتهاد فردي في تفسير القرآن، قال شاهين: "الاجتهاد في تفسير القرآن ليس حكرًا على مؤسسة دينية بعينها، لكنه أيضًا ليس مباحًا لكل فرد بلا تأهيل. فالقرآن الكريم كتاب هداية، لكن فهمه وتفسيره يتطلب أدوات علمية راسخة، كإتقان اللغة العربية، وفهم أسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، واستيعاب مقاصد الشريعة، وأصول الفقه".

وأكد أن "الاجتهاد لا يُمنع، ولكن يُشترط أن يكون من أهل الاختصاص، حتى لا يُساء تفسير النصوص أو تُوظَّف في غير مواضعها، كما تفعل بعض التيارات المتطرفة أو العابثة".

وختم تصريحه بالقول: "المؤسسات الدينية، مثل الأزهر الشريف، لها دور أساسي في ضبط المسار الاجتهادي، لا في احتكار الخطاب، وتسعى لحماية النص من التلاعب، مع فتح المجال أمام المجتهدين المؤهلين. وفي المقابل، فإن الجمود أو احتكار التفسير قد يؤدي إلى انغلاق فكري، ويُبعِد الناس عن الدين. نعم، توجد مساحة للاجتهاد الفردي، لكنها مسؤولية علمية وليست حرية مطلقة، ويجب أن تتم في إطار المرجعية المؤسسية، ضمانًا لصحة الفهم، وصونًا للدين من التوظيف أو العبث".

خريطة فكرية

وعلق الباحث الحقوقي عمرو إمام، تعليقا على ما ورد من رؤى دينية وفقهية داخل المجتمعين الإسلامي السني والمسيحي الكنسي: لا يمثل موقفي الشخصي بأي حال، بل هو محاولة لرسم خريطة فكرية دقيقة لما هو سائد داخل المنظومتين الدينيتين، الإسلامية والمسيحية، بخصوص مجموعة من الأسئلة الجدلية، ما ورد من إجابات يعكس التيار الغالب كما يظهر في الفقه والتقليد والممارسة الاجتماعية، وليس بالضرورة ما أتبناه أو أؤمن به."

وأضاف: "لكن دوري كباحث لا يتوقف عند النقل أو التصنيف، بل يفرض علي أيضا أن أمارس حقي في الفحص والمساءلة، أنا أنطلق من موقع يستند إلى استقلال العقل وحرية الضمير، ولا أتعامل مع أي سلطة دينية باعتبارها فوق النقد، ما يهمني ليس ما اعتاد الناس اعتباره مقدسا، بل ما يثبت نفسه للوعي الإنساني من حيث المنطق والعدالة."

خطاب مأسور

وعلق على الطروحات الدينية في القسم الإسلامي قائلًا: "نحن أمام خطاب فقهي لا يزال مأسورا بالتقليد، في قضايا مثل الختان والمثلية والإجهاض، رغم وجود اجتهادات جديدة، إلا أن الصوت السائد ما زال يقدم النصوص على حساب الإنسان، ويغلب عليه منطق التحريم والمنع والكبت، لا الفهم أو الرعاية أو احترام التجربة الفردية."

وتابع بخصوص المجتمع الكنسي: "المؤسسة الكنسية بدورها تحافظ على موقف صارم من المثلية، وتعلي من خطاب حفظ الأسرة على حساب احتياجات الأفراد النفسية والوجدانية، أما في قضايا مثل الإجهاض، فالتعليم التقليدي يقدس الحياة منذ التكوين الأول، حتى في الحالات التي تتطلب تدخلا لحماية حياة الأم، وفي تفسير النصوص، لا تزال الكنيسة تحتكر الفهم العقائدي، وتضع قيودا على الاجتهاد الفردي، بحجة حماية الإيمان من الانحراف."

سلطة قمعية

وأكد إمام: أنا لا أرفض الدين، لكنني أرفض أن يتحول إلى سلطة قمعية، تفرغ الإنسان من حريته وتكبله بالذنب، لا أؤمن بأن الفقه أو اللاهوت يحملان قيمة في ذاتهما، بل في مدى انسجامهما مع الكرامة والحرية الإنسانية، الموروث لا يمنح شرعيته من قِدمه، بل من قدرته على خدمة الإنسان لا إخضاعه.

وختم تصريحه قائلًا: ما نحتاجه اليوم هو شجاعة فكرية لإعادة طرح الأسئلة المسكوت عنها، لا مزيدًا من الترديد لما قيل من قرون، الإنسان هو الغاية، والعقل هو الوسيلة، والحرية هي الطريق. وأي خطاب ديني لا ينطلق من هذا الثلاثي، هو خطاب فقد صلته بالحق والرحمة والعدالة.

-----------------------------
تحقيق: 
مادونا شوقي
من المشهد الأسبوعية

اختلاف الفقه واللاهوت حول الختان والمثلية والإجهاض * من يفسر المقدس؟ - المشهد الأسبوعية