01 - 09 - 2025

* التعليم الكنسي ينهار.. وجيل جديد يبحث عن إجابات لا يجدها

* التعليم الكنسي ينهار.. وجيل جديد يبحث عن إجابات لا يجدها

منابر بلا معلمين.. وكهنة تحت الضغط في القرى المنسية: 
- القس يوساب عزت: 
التعليم الكنسي في الأقاليم مدعو ليخاطب فكر الجيل الجديد بلغته دون تفريط في الثوابت

في قرى الصعيد والمناطق الفقيرة، تبدو الكنيسة حاضرة كجدران وقدَّاسات، لكنها غائبة كمنهج وتفكير.. الأزمة لا تبدأ من ندرة الكهنة ولا تنتهي عند ضعف الإكليريكيات.. وإنما تمتد لتشمل علاقة مأزومة بين جيل جديد لديه أسئلته، وخدمة لا تملك أدوات الإجابة.

في كثير من القرى يخدم كاهن واحد، ثلاث أو أربع مناطق، يقود قدَّاسًا في الصباح ويتدخل في نزاع عائلي بعد الظهر، ويُسأل مساء عن المثلية والإلحاد والحرية، الضغط النفسي ليس رفاهية يمكن مناقشتها، بل هو واقع يومي مرهق ومتواصل. الكاهن في الأقاليم لا يعد راعيًا فقط، فهو مسؤول اجتماعي، وموجه نفسي، ومتحدث رسمي باسم مؤسسة دينية تعاني من المركزية الشديدة..

الإكليريكيات في المحافظات لا تتساوى مع مثيلاتها في العاصمة، في القاهرة، توجد مكتبات، محاضرات، ورعاية فكرية ولاهوتية مستمرة، أما في الأقاليم.. فغالبا ما يدرس الخدام بعضهم البعض، وتستخدم مناهج قديمة لا تلامس واقع الشباب، ولا تقترب من قضايا العصر، الفجوة التعليمية تصنع فجوة في الوعي وهذه بدورها تخلق عزلة بين الكنيسة وأبنائها.

المشكلة تمتد من الإمكانات، إلى الرؤية، فهل ترى الكنيسة أن التعليم حق متكافئ لكل من يشعر بالانتماء إليها، أم امتياز لمن يسكن بالقرب من الكاتدرائية؟ هل تدرك أن الأسئلة اللاهوتية المعقدة باتت تطرح في قرى بسيطة.. وأن الإنترنت ووسائل التواصل باتت تفتح عيون شباب الصعيد على ما هو أبعد من تقاليد الرعية؟ هل تستعد المؤسسة الكنسية لتجديد خطابها التعليمي في الأطراف، أم تكتفي بالحفاظ على ما تبقى من الحضور الرمزي؟

في الوقت الذي يواجه فيه الكهنة وحدهم هذا الضغط.. تغيب سياسات واضحة من الكنيسة لمعالجة الأزمة.. لا خطط لتوزيع الكهنة بعدالة ولا دعم منهجي للإكليريكيات المحلية ولا تدريب مستمر على التعامل مع قضايا الجيل الجديد.. والأسوأ أن مجرد طرح هذه الأزمة قد يفهم باعتباره تطاولا أو تشكيكا، رغم أن السؤال لا يتعلق بإيمان الناس.. يل بمستقبلهم..

هذا الحوار يفتح بابًا لسؤال أوسع: كيف يمكن لكنيسة عمرها قرون أن تواجه أسئلة جيل جديد في قرية نائية بلا مكتبة ولا مرشد؟ وكيف يتحول التعليم من عبء على كاهن مرهق، إلى مشروع جماعي يعيد للكنيسة دورها كمعلمة ومرشدة؟ الجواب، حتى الآن، ليس عند الكاهن وحده. بل في مكان أبعد، حيث تتخذ القرارات، وتنسى الأقاليم.

علق القس يوساب عزت، أستاذ الكتاب المقدس بالكلية الإكليريكية والقانون الكنسي بالمعاهد الدينية، إن توزيع الكهنة بين المحافظات لا يعد مسألة إدارية بحتة كما يظن البعض، بل هو أمر رعوي وروحي في جوهره، تراعى فيه احتياجات الخدمة، ونضوج الدعوة، وتقدير صوت الشعب، وإرشاد الروح القدس من خلال قيادة الأب البطريرك والأساقفة المسؤولين عن كل إيبارشية. 

وأضاف: من حيث المبدأ، تسعى الكنيسة لتحقيق العدالة، بحيث يكون في كل منطقة كهنة كافين يرعون الشعب، ويخدمون الأسرار، ويقودون العمل الروحي والتعليمي والاجتماعي.. لكن على أرض الواقع قد نلحظ تفاوتا في أعداد الكهنة، حيث تتمتع بعض المناطق الحضرية بوفرة، بينما تعاني القرى والنجوع من قلة واضحة، خاصة في المناطق النائية والحدودية.. وهذا التفاوت نتيجة طبيعية لعوامل بشرية وجغرافية وخدمية.

وأوضح أن معايير توزيع الكهنة تشمل عدة محاور، أولها احتياج الخدمة الفعلي، بحسب عدد الشعب المسيحي، وامتداد المنطقة جغرافيا، وكثافة الخدمات المقدمة، كما تلعب الظروف الأمنية والجغرافية دورا في صعوبة التعيين ببعض المناطق إلى جانب ذلك، تراعي الكنيسة صوت الشعب المحلي، حيث تختار غالبية الكهنة من أبناء الكنيسة نفسها، وليس من المعتاد نقل كهنة بين الإيبارشيات إلا لضرورات قصوى، وأكد أن الكنيسة تصلي وتصوم قبل سيامة أي كاهن، وتسير في التعيينات بإرشاد الروح، لا بمنطق الحسابات وحده. 

وتابع: أحيانا، لا يتوفر في بعض الإيبارشيات كوادر صالحة للرسامة، ما يفرض تحديا حقيقيا، لأن الكنيسة لا ترسم من يريد، بل من اختبرته في خدمته وسيرته واستعداده لحمل نعمة الكهنوت..

وأشار إلى أن المجمع المقدس يشجع مؤخرا على إرسال كهنة من الإيبارشيات الغنية إلى المناطق الأكثر احتياجا للخدمة المؤقتة، كما يجري تطوير منظومة التعليم اللاهوتي والتأهيل الرعوي، بهدف تحقيق عدالة توزيع لا تقاس بالأعداد فقط، بل بالكفاءة والاستجابة لاحتياجات النفوس..

وفيما يخص التعليم الكنسي، اعتبر عزت أن السؤال عن طبيعة التعليم في الإكليريكيات الإقليمية يفتح بابا واسعا للحديث عن مسؤولية الكنيسة في إعداد خدام قادرين على مواجهة الفكر المعاصر. وقال: الإكليريكيات بالأقاليم تدرس مناهج معتمدة من الكلية الأم، تشمل العقيدة واللاهوت الدفاعي والكتاب المقدس والتاريخ، لكن التحدي الأكبر يكمن في طريقة عرض هذه المواد، هل تقدم بروح زمانها وتفعل الفكر النقدي؟ أم تكتفي بالنقل من التراث؟.

وأوضح أن هناك تفاوتا بين الإكليريكيات، فبعضها يلامس القضايا الفكرية الحديثة مثل الإلحاد والهوية والحرية الفردية، لكن غالبا من زاوية تقليدية دون حوار حقيقي مع الواقع.

 وأردف: المشكلة أن بعض الطلاب يعرفون ما قاله الآباء، لكن لا يعرفون كيف ينقلونه بلغة يفهمها جيل اليوم، وهنا يتحول التعليم من عملية تنشئة روحية وفكرية إلى مجرد حفظ معرفي.

وشدد على أن الكتاب المقدس نفسه هو النموذج الأعلى للتعليم العصري، إذ قدم السيد المسيح التعليم بلغة الناس، وخاض حوارات مباشرة مع المختلفين، وركز على الشخص لا على القوالب، كما دعا الإكليريكيات إلى تجديد مناهجها، ودمج قضايا مثل الإلحاد، والفلسفة الحديثة، والنوع الاجتماعي، مع تشجيع الطلاب على البحث والنقاش ودمج الخبرة الرعوية بالتعليم الأكاديمي..

وكشف عن أن اللجنة المجمعية للكليات الإكليريكية تعقد سنويا سيمينارات لتحديث المناهج، وقد شارك فيه شخصيا دعما لهذا المسار الإصلاحي..

وعن تطوير الكاهن لنفسه رغم ضغوط الخدمة، قال: الزمن والجهد محدودان، لكن الكتاب يدعونا أن نكون وكلاء أمناء، ناظرين أسرار الله، ومفصلين كلمة الحق باستقامة.. واعتبر أن التطور يبدأ من تغذية روحية يومية، وقراءة مركزة لا مفرطة، والمشاركة في مجموعات دراسية بين الكهنة، والاستفادة من الوسائط الحديثة، وكتابة تأملات روحية.

وأكد أن الكنيسة القبطية لا تشترط فراغا زمنيا للكاهن، بل اشتياق حقيقي وتدريب روحي دائما، مستشهدا بقول بولس لتلميذه: مواظبا على القراءة والوعظ والتعليم... تأمل في هذا وكن فيه، لكي يكون تقدمك ظاهرا. 

وفي ما يتعلق بالفجوة بين خطاب الكنيسة التربوي واحتياجات الجيل الجديد، اعترف عزت بوجود فجوة آخذة في الاتساع، مشيرا إلى أن الكنيسة رغم عمقها اللاهوتي وثبات إيمانها، لا تزال أحيانا تفتقر إلى أدوات توصيل مناسبة لهذا الجيل، الذي يعيش في عالم متسارع، بصري، تفاعلي، مليء بالأسئلة الوجودية..

وقال: "الكنيسة لا تحتاج أن تغير الإيمان، بل أن تجدده في شكله ولغته.. وكما قال بولس: صرت للكل كل شيء، علينا أن نخاطب كل جيل بلغته، دون المساس بجوهر الحق.

 وأضاف: الكرازة الحقيقية هي أن نكون قريبين من الناس، لا أن نخيفهم، أن نشرح لا أن نملي، أن نحاور لا أن نحاضر.

وختم قائلًا: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قادرة على تجديد لغتها التربوية دون أن تفرط في الثوابت، وعندما تضع يدها بصدق على احتياجات هذا الجيل، ستجده يعود بقلبه كله إلى حضنها.
--------------------------------
تحقيق: مادونا شوقي
من المشهد الأسبوعية

* التعليم الكنسي ينهار.. وجيل جديد يبحث عن إجابات لا يجدها - المشهد الأسبوعية