09 - 08 - 2025

الصين من الداخل.. من الثورية إلى الممارسات الناعمة

الصين من الداخل.. من الثورية إلى الممارسات الناعمة

بقلم: علي عطا

يتكئ الباحث المصري أحمد السعيد في كتابه "الصين من الداخل"، على خبرةٍ شخصية، عمرُها أكثر من 25 عاماً من التفاعل مع الثقافة الصينية، ترجمةً ونشراً وتواصلاً إنسانياً، وأكثر من 100 مرجع، بين نصوص كلاسيكية وخطابات رسمية ودراسات حديثة، وتجارب مقارنة، وملاحظات نقدية، ليقدم تصوراً موضوعياً للدولة الصينية الناهضة، من منطلق ثقافي، يطرح أسئلة أكثر مما يقدم من إجابات، وهو أمر مفهوم في ظل حداثة الاهتمام بدرس الصين، على الأقل في النطاق العربي الذي يتوجه إليه هذا الكتاب المهم.

يقدم الكتاب الصادر حديثا عن دار "بيت الحكمة" في القاهرة حصاد بحث أحمد السعيد لأكثر من ثلاث سنوات، "في محاولة لرسم ملامح العقل السياسي الصيني كما تشكَّل عبر قرونٍ من الفلسفة والسياسة والتحولات الكبرى، وصولاً إلى نسخة معاصرة مركَّبة من الثقافة والسياسة معاً"، بحسب ما أورده المؤلف في مقدمة الكتاب.

ويبرز الكتاب الذي جاء في 286 صفحة من القطع فوق المتوسط، الطريقة التي ترى بها الصين نفسها وتقدم بها رؤيتها للعالم، في سياق الدراسات العربية المتعلقة بهذا البلد والتي تشهد في السنوات الأخيرة انتعاشاً ملموساً، سعياً لتعميق التبادل الثقافي بين الصين والدول العربية، باعتباره من مقتضيات تنمية التعاون بين الجانبين، خصوصاً في المجالات الاقتصادية، ومن أمثلته كتاب التونسي الطاهر عبد الرحمن فيفة "الصين الحديثة"، وكتاب التونسي محمود المعموري "ريح الشرق"، المعروف أيضاً باسم "التجربة الصينية في الميزان"، وكتاب المصري شوقي جلال "الصين... التجربة والتحدي"، وكتاب "القوميات المسلمة في الصين" للمصري عبد العزيز حمدي، وكتاب "العلاقات  التاريخية بين شبه الجزيرة العربية والصين" للسوداني جعفر كرار.

منطلق ثقافي

وبالإضافة إلى ترجمته الكثير من عيون الأدب الصيني، في أعقاب فوز الكاتب مو يان بجائزة نوبل في الأدب عام 2012، فإن لأحمد السعيد، الحاصل على الماجستير والدكتوراه في تخصص الأعراق البشرية من جامعة نينغشيا في الصين، عدداً من الكتب التي تعكس معرفته العميقة بالمجتمع الصيني منها: "الصين في المُخيلة العربية"، و"سنواتي في الصين"، و"طريق الصين – سر المعجزة"، بالاشتراك مع لي هونغ جيه، و"الصين في العصر الجديد" بالاشتراك مع عماد الأزرق الذي يعد من أبرز الباحثين المصريين في الشأن الصيني.  

ويتألف كتاب "الصين من الداخل"، من أربعة أبواب، تضم 12 فصلاً، تغطي مساراً ثقافياً سياسياً متكاملاً، وتشكل رؤية تحليلية لمسار تطور "العقل السياسي الصيني"، بداية من الجذور الفلسفية والفكرية، مروراً بالتحولات الثورية والبراغماتية، وصولاً إلى الممارسات الناعمة في العصر الحديث.

ويقول السعيد إنه سعى لإنجاز هذا الكتاب، تلبية لحاجةٍ "عربية" إلى فهم "الآخر الصيني"، من منطلق ثقافي وليس من منطلق سياسي فقط. ويضيف: "أضع هذا الكتاب بين يدي القارئ العربي؛ طامحاً أن يثير الأسئلة أكثر مما يقدم إجابات، وأن يكون نواة لحوار حضاري متجدد مع الشرق الذي عاد يتكلم بلغته الخاصة". 

بين الأمس واليوم

وفي ما يتعلق بالثقافة الصينية المعاصرة، فإن السعيد يرجعها إلى ثلاثة مصادر رئيسة: الثقافة التقليدية، والأيديولوجيا الشيوعية، بجانب بعض القيم الغربية التي دخلت حديثاً على المجتمع الصيني بعد "تصيينها"؛ أي إعادة تفسيرها بما يتناسب مع الفلسفة الصينية، كتحويل مفاهيم مثل الديموقراطية إلى صيغ تنسجم مع مركزية الدولة. ولاحظ المؤلف أنه مع بداية الثمانينات من القرن العشرين، لم تعد الصين مجرد دولة تبحث عن موضع قدم في النظام الدولي، "بل أصبحت كياناً يعيد تشكيل أدوات حضوره، ويختبر سبل التعبير عن هويته في سياقات خارجية معقَّدة" ص 119. ورأى السعيد أن الصين تنزع إلى تقديم نموذجها السياسي على أنه امتداد لمنظومتها الحضارية، مشيراً في هذا الصدد إلى أن الهوية الثقافية للصين لا تقتصر على الموروث الكونفوشيوسي، بل تشمل أيضاً طرائق التفكير المرتبطة بالمركزية الصينية التقليدية، ونظرتها الأخلاقية للسلطة، وفلسفة التوازن والتناغم، بل وحتى ميراث التمرد والثورة كما تشكَّل في بعض مراحلها. واعتبر أن هذا التراكم متعدد الأوجه هو ما يجعل تحليل السياسة الخارجية الصينية المعاصرة دون استحضار خلفيتها الثقافية، "أمراً قاصراً، إن لم يكن مضللاً".

فهْم العالم  

وخلص السعيد إلى أن التحول التدريجي من الخطاب الثوري إلى الخطاب الواقعي التنموي، ثم إلى طرح رؤى أخلاقية – ثقافية للحوكمة العالمية، يكشف عن منحنى تطور يميز التجربة الصينية عن سواها. هذا المنحى لم يكن خطياً، ولا خالياً من التناقضات، لكنه حافظ على مسألة مركزية هي إثبات أن للصين طريقة خاصة لفهم العالم، والتعامل معه، والمشاركة في إدارته. ومع الزمن أصبحت الثقافة الصينية لا تعبر فقط عن الماضي، بل عن المستقبل أيضاً، بوصفها مورداً استراتيجياً وشرعياً لبناء "هوية دولية". وفي هذا السياق تعمد الصين إلى إعادة تأطير مبادئها السياسية في قالب ثقافي، فالسيادة تطرح باعتبارها كرامة وطنية متجذرة، لا مجرد مبدأ قانوني. والتنمية تُقدم باعتبارها أولوية أخلاقية لحماية الاستقرار المجتمعي، وليس هدفاً اقتصادياً فقط. والعدالة تُفهم بوصفها توازناً قيمياً في العلاقات الدولية، وليس نصاً قانونياً فحسب. وحتى مفاهيم السلام أو عدم التدخل، أو الشراكة الحضارية، نجد جذورها – كما يؤكد السعيد - في الإرث الفكري العميق الذي يرى في التناغم "فضيلة عليا"، وفي التوازن بين المصالح والقيم "سبيلاً للحكم الرشيد".

وإذا كان النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة قد تشكَّل إلى حد بعيد وفق التصورات الغربية للحداثة والعقلانية والمؤسسية، فإن الصين – من موقعها قوة صاعدة ومجتمعاً حضارياً – تحاول أن تعيد التوازن الثقافي في هذا النظام، لا أن تهدمه، وهذا ما يجعل خطابها، في بعض لحظاته متوتراً بين البراغماتية والهوية، وبين الانخراط الدولي والمحافظة على الذات، وبين السعي للقيادة وتفادي الاستتباع، بحسب المؤلف.

وفي الخلاصة، يرى السعيد أننا أمام حضارة قديمة تعيش في جسد دولة حديثة، تحاول أن تبني سرديتها في عالم لم يتعوَّد أن يسمع من الشرق، بل أن يحدثه دائماً، مشدداً على أن فهم الصين من الداخل، "كفيل ببلورة فهم جديد للعالم بأسره".        

التأريخ والتحليل

التزم السعيد منهجية تجمع بين التأريخ والتحليل النظري والفهم الثقافي، ليكون الكتاب – كما يقول - جسراً لفهم الصين من داخل "عقلها"؛ لا من خارجه. ولاحظ السعيد في هذا الصدد أن العالم في شكله الحالي يعاني من "أزمة قراءة متبادلة"، حيث تُفهم الدول من خلال صور مسبقة، لا من خلال ما تقوله عن نفسها؛ "والصين تحديداً هي من أكثر الدول التي يساء فهمها، إما بسبب الصورة النمطية لها في الإعلام الغربي، وإما بسبب ابتعادها المقصود عن النماذج المألوفة في تقديم الذات". ومن ثم ركَّز السعيد، ليس على ماذا تفعل الصين، بل على لماذا تفعل ما تفعله، وكيف تفكر فيه، ومن أي منابع تستمد منطقها. ووجد أنه ليس هناك من سبيل لفهم خطاب الصين السياسي إلا بالرجوع إلى الجذور العميقة التي تكون بنية تفكيرها: من الكونفوشيوسية إلى الطاوية، إلى المدرسة القانونية، إلى البوذية، ثم إلى الماركسية اللينينية والاشتراكية ذات الخصائص الصينية؛ "تلك التي دمَجت في مرحلة متأخرة منظومة كاملة من القيم التقليدية مع معطيات العصر".

وهكذا، اجتهد السعيد في أن يتعرف على الصين من الداخل، كيف يرى الصيني نفسه، ما هو تصوره للعدالة، للتنمية، للسلام، للهيمنة، للهوية. ومن خلال ذلك وجد نفسه – كما يقول - أمام بلدٍ لا يرى نفسه دولة صاعدة فحسب، بل حضارة عائدة، وكياناً لا يرى التنمية مشروعاً مادياً فقط، بل استعادة للانسجام التاريخي بين الدولة والعالم. 

ولاحظ السعيد أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، أعاد تأويل الفكر الماركسي ضمن منظومة صينية تقليدية، ورفع من رمزية مفاهيم مثل "الحلم الصيني"، و"مجتمع المصير المشترك"، و"الدبلوماسية ذات الخصائص الصينية"، ليقدم نسخة متكاملة من الخطاب السياسي الصيني، قاعدتُه فلسفية وغاياتُه استراتيجية؛ "وهكذا لم تعد الثقافة تابعة للسياسة، بل رافعة لها. صارت اللغة والرمز والتاريخ، أدوات لصياغة خطاب دولي جديد، نحو الجنوب العالمي، تقدم به الصين نفسها حامية للإنصاف الدولي، لا منافساً جيوسياسياً للغرب فحسب". في هذا الخطاب تلتحم القيم القديمة مع أهداف حديثة: "التناغم"، "العائلة العالمية"، "التنمية المشتركة"، "السلام شرطاً للعدالة"، وكلها مفاهيم لا تنتمي إلى العرف السياسي التقليدي، "بل تُستمد من خزائن الصين الفكرية القديمة". وأخيراً، يقول السعيد، ليس الهدف من هذا الكتاب أن يقول إن "الصين على حق"، بل أن يقول إن "الصين ترى نفسها بهذه الطريقة، وهذه هي رؤيتها للعدالة والعالم والإنسان" ص 280. وإن كان العالم يريد التفاعل مع الصين، أو حتى مواجهتها، "فليكن هذا على أساس الفهْم، لا على أساس التوجس أو التبسيط أو الإسقاطات الأيديولوجية".

.………..

بقلم: علي عطا

مقالات اخرى للكاتب

الصين من الداخل.. من الثورية إلى الممارسات الناعمة