31 - 07 - 2025

أم كلثوم في التليفزيون الفرنسي

أم كلثوم في التليفزيون الفرنسي

ما الذي يدعو التليفزيون الفرنسي مؤخرًا لإذاعة حلقة عن أم كلثوم وتأثيرها في وجدان الفرنسيين؟ ناقشت فيها المذيعة كتابا صدر حديثًا باللغة الفرنسية بعنوان "أم كلثوم"، ليس هذا فحسب، بل دعني أزيدك بيتًا من الشعر، ففي العام الماضي صدر كتاب بالفرنسية بعنوان "أم كلثوم.. السلاح السري لعبد الناصر"!.. ما سر كل هذا الهوس بكوكب الشرق؟

كانت أم كلثوم قد أحيت حفلين في باريس منذ نحو ستين عامًا، وتحديدًا بعد نكسة 1967، كان الجُرح العربي مفتوحًا وقد امتلأ عن آخره بالملح، جُرح ترك أثره في كل عربي، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، كما كان يحلو للإذاعي أحمد سعيد أن يصفه وهو يُلهب ظهر القومية العربية بصوته الثوري من إذاعة صوت العرب. 

قبلها بنحو عام، كان برونو كوكاتريكس، مدير الأولمبيا، قد تعاقد مع أم كلثوم لإحياء حفلين، وذلك بتوصية من وزير الثقافة ثروت عكاشة، لم يكن برونو مرتاحًا للفكرة، وشعر أنه دفع ثمنًا باهظًا سوف يكبده خسائر فادحة.

كانت الأجواء في ذلك الوقت متأثرة بنتائج الحرب المخيبة للآمال والمحطمة لأحلام أجيال من العرب على صخرة إعلام صنع عالـمًا كرتونيًا. 

لم يصدق أحد أن أم كلثوم سوف تغني بعد أقل من ستة شهور على النكسة، وشعر كوكاتريكس أنه باع تاريخه ونجاحاته التي بناها في سنوات عمره بتعاقده مع سيدة تخطت الستين من عمرها، ولن تزيد أغانيها في الحفلة الواحدة عن ثلاث أغنيات، كانت أجواء فشل وإحباط إلى أن ظهرت أم كلثوم على شاشة التليفزيون الفرنسي، مع تعليق المذيع بأنها جاءت لتحيي حفلين.

تغير الموقف مائة وثمانين درجة، بيعت كل التذاكر، في ساعات، وأمام الحضور الجارف امتلأت الممرات بالكراسي، وطُبعت تذاكر "وقوف"، ومع تحقيق الحفلة الأولى نجاحًا مذهلاً، طبع برونو خمسمائة تذكرة إضافية للحفلة الثانية ورفع أسعار كل التذاكر، ليحقق مسرح الأوليمبيا أعلى إيرادات على الإطلاق.

كان الحضور طاغيًا، وخاصة من الجالية المغاربية، كما حضرت جاليات عربية خصيصًا من بعض الدول الأوروبية، وعلى رأي الدحيح في حلقته المميزة؛ "أم كلثوم في باريس"، لم يكن سفرهم إلى فرنسا بغرض مشاهدة برج إيفل ولا زيارة متحف اللوفر، كان لغرض واحد، هو مشاهدة أم كلثوم والاستماع إليها.

وكذلك كانت أم كلثوم تعي تمامًا الهدف من إقامة حفلات في باريس، لم تكن الشهرة ولا تحقيق مكاسب مادية ضمن أهدافها، كانت تحمل ضمير أمة انكسرت وتقاوم لتقف ثانية، أمة تريد أن يصل صوتها إلى كل أرجاء الدنيا، كما غنت من كلمات كامل الشناوي:

                       "أنا الشعب أنا الشعب/ لا أعرف المستحيلا/ ولا أرتضى بالخلود بديلا"

وقد كان اتفاقها مع برونو كوكاتريكس واضحًا منذ البداية؛ بأن عائدات حفلاتها ستوجه للمجهود الحربي، وعندما طلب منها عدم الإشارة لهذا الأمر في لقاءاتها الصحفية، هددت بإلغاء الحفلات، فما كان منه إلا أن رضخ.

كان الجمهور يعلم أن كل فرنك يدفعه في تذكرة سوف يتحول إلى طلقة رصاص وبندقية يدافع بها الجندي المصري عن أرضه وحدوده.

وفضلاً عن عشقهم لكوكب الشرق، كان الوازع القومي حاسمًا في حضور الجماهير العربية حفلها الأول، مما حدا بالفرنسيين لحجز قرابة 20% من تذاكر حفلها الثاني

لم تكن شهرة أم كلثوم سببًا في حفر اسمها في ذاكرة ووجدان الفرنسيين، لتظل حاضرة رغم مرور قرابة ستين عاما على حفل الأوليمبيا، كانت بشخصيتها القوية تعبر عن تاريخ أمة، كانت الرسالة الوطنية التي تحملها معها أينما حلت هي مفتاح القلوب، كانت تعبيرًا عن هموم وآمال وطن، وتجسيدًا لتأثير القوة الناعمة وقدرتها على إعادة الثقة لنفوس منكسرة.

"مصر التي في خاطري وفي فمي .. أحبها من كل روحي ودمي

يا ليت كل مؤمن بعزها يحبها حبي لها.. حبي لها"

كانت رمزًا لمرحلة بكل ما فيها من عزة وانكسار، وتعبيرًا عن قدرة المواطن العربي على معاودة الوقوف بعد السقوط.

وقفت كتفًا بكتف إلى جوار المقاتل على خط النار، واستنهضت روح الأمة العربية ليصطف الجميع على روح سواء ويشارك كل فرد في الإعداد للمعركة، لا فرق بين رجل وسيدة، ولا بين فلاح ومتعلم.

من هنا لا تجد غرابة في استدعاء الذاكرة الفرنسية أجواء أم كلثوم كلما هلت ذكرى حفلتي مسرح الأوليمبيا، لتؤكد أننا أمام السيدة الرمز، والمطربة العصية على النسيان.. مطربة يتحرك مؤشر محبتها وشهرتها عكس قانون الجاذبية، فكلما أوغلنا في البعد عن تاريخ رحيلها، غاصت محبتها عميقًا..
--------------------
بقلم: 
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان (1)