على مدار ما يربو على ثلاثين عاماً شاركت بعشرات البحوث في مؤتمرات أكاديمية دولية في العديد من التخصصات وكان الذهاب لهذه المؤتمرات -علاوة على القيمة العلمية المكتسبة ومراكمة الخبرات والالتقاء مع كبار الباحثين والعلماء من مختلف الجنسيات- نافذة للتعرف على ثقافات وتراث الأقطار والبلدان المضيفة. لم أذهب على الإطلاق لهذه الفعاليات كمستمع وإنما كمشارك ببحوث وكنت حريصاً على المشاركة فقط في المؤتمرات التي تنظمها جهات مرموقة سواء الأقسام الأكاديمية في الجامعات أو المراكز البحثية أو الجهات ذات الحيثية العلمية مثل رابطة المترجمين الأمريكيين أو الكنديين أو رابطة الأدب المقارن أو الأدب الأمريكي أو رابطة الدراسات الشرق أوسطية أو دراسات حوض البحر الأبيض المتوسط ...الخ.
شاركت كباحث وكمتحدث رسمي في مؤتمرات شتى عقدت في معظم الدول الأوروبية ومن بينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال والنمسا وبلجيكا وجمهورية التشيك وروسيا وبولندا… الخ. كذلك شاركت في العديد من المؤتمرات في كبرى جامعات معظم الولايات الامريكية والمقاطعات الكندية. في ذات السياق شاركت في مؤتمرات دولية نظمتها جامعات في استراليا ونيوزيلندا والصين وفيتنام وتايلاند وتركيا وأذربيجان والبرازيل ودول أخرى بما في ذلك جميع دول الخليج العربي والأردن وسوريا ولبنان.
في الآونة الأخيرة وأثناء إجازتي السنوية تلقيت دعوة شخصية من الأكاديمية الليبية للدراسات العليا في طرابلس لإلقاء الكلمة الرئيسية كمتحدث رسمي في المؤتمر الدولي السابع للترجمة الذي نظمته الأكاديمية. ونظراً لحساسية الأوضاع الأمنية في ليبيا في الوقت الراهن فقد نصحني كل من سألته بعدم السفر. لم أكترث في البداية وشرعت في تصفح بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية المختصة بتوفير معلومات عن وجهات السفر المختلفة، ثم تصفحت المواقع الاليكترونية لأكثر من 8 سفارات عربية وأجنبية وكانت جميع المواقع تحذر من السفر إلى ليبيا وثمة كلام متكرر عن وجود عصابات وميليشيات وحوادث اختطاف وطلبات للفدية ومبالغات لا تعد ولا تحصى…الخ. تحدثت مع بعض الزملاء الذين تلقوا دعوات للمشاركة في نفس الفعالية وجميعهم أصيبوا بحالة من الهلع بعد الاطلاع على ما نشرته المواقع المختلفة عن الوضع الأمني في طرابلس.
في الواقع لي أصدقاء كثر من ليبيا الشقيقة تعرفت عليهم في الإسكندرية وفي دول الخليج وفي الولايات المتحدة أيام الدراسة، ولنا جيران في كندا من ليبيا وأحد الأطباء الذين أتردد عليهم في ولاية أونتاريو في كندا ليبي تخرج من جامعة طرابلس. ولكن للأسف ورغم الجوار الجغرافي ومعرفتي بتاريخ ليبيا لم تشأ الظروف أن أزور هذا البلد الطيب. علمت أن جميع الزملاء المدعوين من الخارج للحضور والمشاركة في المؤتمر قد اعتذروا، وفضلوا المشاركة عن بعد رغم أن الجهة المنظمة قد منحت الجميع تذاكر مجانية وإقامة كاملة على نفقتها. ما لفت نظري أن المواقع المختصة بتوفير معلومات عن وجهات السفر سواء بالدول التي لها سفارات في طرابلس أو غير ذلك، تنشر نفس الكلام وذات التحذيرات. تساءلت: إذا كانت البلد غير آمنة فلماذا افتتحتم سفارات لكم بها؟ توكلت على الله وتحدثت مع صديق ليبي عزيز وهو رجل مثقف وقامة علمية كبيرة وزميل عمل وشريك في التخصص وكان هو حلقة الوصل بيني وبين الجهة المنظمة وقلت له ممازحاً: (ياباشا إن شاء الله سوف أشارك وفي حالة تعرضي للاختطاف فسوف استغيث بالصعايدة بلدياتي وانت عارف الصعايدة. ضحك ورد قائلاً: لست بحاجة لاستدعاء أصدقائك الصعايدة، فهم متواجدون هنا بالآلاف وعلى مقربة من مكان انعقاد المؤتمر).
تواصلت مع سفارة ليبيا من أجل الحصول على التأشيرة، فقال لي الموظف لو عندك جواز أجنبي يجب أن تحصل على تأشيرة ولو عندك جواز مصري فالدخول بغير تأشيرة طالما عمرك تجاوز ٤٥ عاما. قلت لنفسي (هذا شعب محترم وهذا بلد مازال يحتفظ ببقايا العروبة التي انتهكت واغتصبت وتركت جثتها في العراء نهبًا للحيوانات المفترسة). من المعروف حاليا أن الخواجات أو أصحاب الجنسيات الغربية ممن يحملون جوازات لهذه الدول يدخلون بسهولة لجميع البلدان سواء عربية أو أجنبية، أمًا حملة جوازات معظم الدول العربية فيواجهون صعوبات في الدخول والحصول على التأشيرات. تذكرت ما حدث في عام ١٩٨٦ في مطار كينيدي في نيويورك في بلاد رعاة البقر موطن الديمقراطية وحقوق الإنسان حيث تم توقيف جميع الشباب من حملة الجوازات العربية وكانوا يستفسرون (هل أنت شيعي أم سني؟) وكان ذلك في أعقاب الإعلان عن اختطاف (الحزب اللبناني) لطائرة ركاب أمريكية.
منذ صعودي للطائرة المتجهة إلى طرابلس وهي تابعة لشركة طيران ليبية خاصة - منذ اللحظة الأولى شعرت بالارتياح من طريقة المعاملة الراقية والترحاب من طاقم الضيافة في الطائرة وتذكرت خطوط طيران أخرى على متنها مضيفات (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً). وصلت الرحلة إلى مطار معيتيقة الدولي في طرابلس، وعلمت أن (معيتيقة) كانت فتاة ليبية سقطت عليها قذيفة من طائرة أمريكية فقتلتها في منطقة قريبة، فقرر العقيد القذافي (رحمه الله) إطلاق اسمها على المطار. أنهيت إجراءات السفر بسرعة وقال لي موظف المطار لو كنت قادما كسائح كنت سوف تخرج مباشرة ، ولكن طالما أنت قادم كضيف مدعو من جهة رسمية فلابد أن يأتي مندوب من الجهة لاستقبالك، وبالفعل تواصلت مع صديقي العزيز وكان في انتظاري وخرجنا معا إلى الفندق وكانت الساعة تقترب من الواحدة والنصف بعد منتصف الليل.
أثناء السير في مدينة طرابلس من المطار إلى الفندق كانت الأمور عادية جدا مثل كل المدن الأخرى. كانت سيارات الشرطة متواجدة في أماكن متعددة وكانت المدينة لم تنم بعد، فالناس في الشوارع وشاهدت بعضهم يسيرون على كورنيش البحر. الأجواء في المدينة هادئة ولا يوجد ثمة ما يشي أن بالبلدة مناوشات أو اضطرابات أمنية. عندما صعدت للغرفة في الفندق في هذا الوقت المتأخر من الليل فوجئت بوجود وليمة عشاء تكفي لأسرة وهذا شيء غير معتاد في جميع الفنادق التي قضيت فيها أيامًا وليالي (هناك أوقات محددة لتناول الوجبات). في قاعة انعقاد المؤتمر التقيت بنخبة من الاساتذة الأكفاء معظمهم من ليبيا وبعضهم من دول الجوار.
وجدت شعباً عريقاً مثقفاً متعطشاً للعلم عاشقاً للمعرفة والبحث الأكاديمي الجاد. ما أسعدني وأثلج صدري هو العدد الكبير من الباحثين الشباب وطلبة الدراسات العليا الذين جاؤوا من مناطق بعيدة لأن ليبيا بلد شاسع الأجواء. جاء هؤلاء الطلبة ليشاركوا ببحوث علمية عالية المستوى في المؤتمر مما يبشر بنهضة تعليمية على الطريق في هذا البلد الكريم. اكتشفت أن في ليبيا اهتمام واسع النطاق بدراسات الترجمة خاصة في الأكاديمية التي نظمت المؤتمر، وقلت لنفسي إن في ليبيا أعداد من المترجمين تكفي لسد احتياجات جميع الدول العربية في هذا التخصص الهام.
شعرت براحة غامرة وأنا بينهم وشعرت بأنني وسط أهلي وعشيرتي وكنت سعيدا جدا بشغف الطلبة لمعرفة المزيد عن أحدث البحوث في مجال التخصص. تجولت في مدينة طرابلس القديمة، ورأيت شواهد تدل على حضارات ضاربة في أعماق التاريخ. كان للمدينة القديمة أسوار وأربعة أبواب تغلق في المساء حتى لا يلج داخلها الغرباء أثناء الليل. شاهدت الأزقة والبيوت القديمة والمقاهي والأسواق الشعبية التي تشبه أسواق القاهرة التاريخية ومنطقة خان الخليلي. شاهدت قوس الإمبراطور والفيلسوف الروماني (ماركوس أوريليوس) بالقرب من شاطئ البحر علاوة على بقايا آثار إيطالية وأخرى عثمانية تركية.
في طرابلس المعاصرة ثمة طرق حديثة وبنية تحتية تحت الإنشاء وشباب مجتهد وسواعد ليبية محلية واعدة تعمل في جميع القطاعات، وتبشر بانقشاع غبار سنوات مضت وبزوغ عهد جديد عامر بالأمل والخير والحب والرخاء لأهل ليبيا وكل الشعوب العربية الذين كانوا يتقاطرون على ليبيا في العهود السالفة ومازال منهم الآلاف يعيشون في ربوعها. لذلك أنصحكم أن تزوروا طرابلس وكل ضواحيها فالبلاد آمنة وطوال فترة إقامتي على مدار ٤ أيام وبعد انتهاء فعاليات المؤتمر كل مساء كنت أتجول في المدينة وفي أسواقها وارتاد مقاهيها ومطاعمها وكنت أشاهد التجمعات الثقافية والحفلات اليومية التي تقيمها البلدية وبعض الجمعيات والجهات المعنية، حيث شاهدت واستمعت للأغاني والموسيقى والأهازيج الشعبية في الميادين وفي الحارات وكانت التجمعات تضم الشباب والفتيات والعائلات في انسجام واحترام للعادات والتقاليد العربية الأصيلة.
سافروا إلى طرابلس ولا تصدقوا ما يكتب على المواقع الإليكترونية أو غيرها من الجهات التي تنشر الشائعات المغرضة. زوروا طرابلس فالبلد جميلة والشعب طيب ومضياف والأجواء رائعة وطوال فترة إقامتي لم استمع لصوت سيارات الإسعاف ولو لمرة واحدة ولم استمع لصوت سارينة سيارات الشرطة رغم تمركزها في أماكن عديدة في المدينة. زوروا طرابلس وشاهدوا المباني القديمة التي بناها الإيطاليون والقصور التي تعود للعهد الملكي والمنشآت التي بُنيت في زمن القذافي وفي الوقت الراهن. زوروا طرابلس واطلعوا على الحصون والقلاع والأقواس التي بناها الإيطاليون الغزاة، ولكنها مازالت قائمة وشاهدة على حقبة تاريخية هامة. زوروا طرابلس وشاهدوا ميدان أو ساحة الشهداء حيث تتجمع أسراب الحمام في مشهد بديع، وهذه الساحة وغيرها من الأماكن لا تختلف عن الساحات المشابهة في معظم الدول الاوروبية. زوروا طرابلس إن كنتم من عشاق المأكولات البحرية فهناك سوف تستمتعون بنكهات جديدة وجربوا (شوربة دموع التماسيح) وهذا الطبق أوصي به للزملاء العواجيز ومن بلغوا من العمرعتيا ولكل زميل أو صديق تحول إلى (بَركة) في الآونة الآخرة، وأبشركم فالنتائج سوف تكون مبهرة وسوف يكون أعداؤكم مشرفاً علماً بأن (الرجل البركة) في العامية المصرية، كما ذكرت في مقالاتي السابقة هو الرجل الطاهر الذي اعتزل الحريم وأصبح مثل (القواعد من النساء اللائي لا يرجون نكاحاً). طابت أوقاتكم.
------------------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
* أكاديمي وناقد ومترجم