31 - 07 - 2025

تأثير"ديدرو" والعلاقة بين الأصالة والمعاصرة

تأثير

تلقيت عدة ردود وتعقيبات على مقال "رداء جديد وهوية مفككة". لمس المقال جوانب إنسانية أثرت في كثيرين، من خلال طرحه لمفهوم "تأثير ديدرو". 

كان ديدرو قد نشر مقالة، بعد تلقيه بيجامة نوم فاخرة كهدية من أحد أصدقائه،دفعته إلى الدخول في دوامة استهلاكية دفعته للاستغناء عن متعلقات كثيرة قديمة واستبدالها بأخرى جديدة، تتناسب مع فخامة الهدية ورؤيته الجديدة للحياة، ليجد نفسه وقد أصبح – على حد قوله - عبدًا لردائه الجديد، حيث تحدث المقال السابق عن هذا الأثر في العلاقات الإنسانية.

وقد أحالتني بعض التعقيبات القيمة إلى إسقاط "تأثير ديدرو" على الدول، وتحديدًا تلك العلاقة الشائكة بين القديم والحديث وتأثير ذلك على الهوية والمجتمع، أو ما بات يُطلق عليه "الأصالة والمعاصرة" وسبل المواءمة بينهما؛ بمعنى كيف تكون أصيلاً في حداثتك وحديثًا في أصالتك، وكيف تتوجه إلى المستقبل دون أن تجد في ذلك التراث ما يعوق تقدمك، أو ما تخجل من ذكره.

في هذا الصدد، يعج التاريخ العربي بمفكرين وأدباء وعلماء حاولوا التوفيق بين هذين الاتجاهين، اللذين يبدوان للوهلة الأولى متناقضين تمام التناقض، بينما هما متكاملان في جوهرهما متحدان تمام الاتحاد؛ إذ لا مستقبل من دون ماضٍ. فضلاً عن أن العلاقة بينهما تخضع لديناميكيات تتغير مع تطور أنماط الحياة، التي لا تعرف الثبات، وكما قال الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، "الثابت الوحيد هو التغير".

مثال ذلك، تطور أحكام الصلاة للمسافر على مدار العصور، فأحكامها وقت كانت الدابة مطية المسافر من الخليج إلى المحيط، اختلفت بعد أن صارت سيارة، فسفينة، فطائرة، وهكذا في العديد من الأحكام الفقهية.

لذا، لم تكن عبارة الشيخ محمد مصطفى المراغي (1881-1945): "دلّوني على ما ينفع الناس، وأنا آتيكم بسنده من الكتاب والسنة"، مجرد تعبير عن رحابة فقه، بل إيمان بمرونة الشريعة وقدرتها على مواكبة العصر، إذا ما أُحسن فهمها وتأويل نصوصها وتحويل الاجتهاد إلى ساحة لاستعراض إبداعات العقل البشري، الـمُحلق ما اتسع الفضاء، الغائب ما ضاقت المساحة. 

والتحديث وصلٌ بين الأصلِ والفرع، واستثمار لرحابة عقيدة شرعها خالق البشر لصالح البشر، حبسها كثيرون في قمقم التزمت، فصارت مثبطًا لا محفزًا.

من هنا بذل المفكرون جهدًا كبيرًا في التقريب بين التراث والحداثة، وخاصة مع الانفتاح على الحضارات والثقافات الهندية واليونانية والإغريقية وانتشار الترجمة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، فاجتهد ابن رشد في الجمع بين الفلسفة اليونانية والعقيدة الإسلامية، ودعا الشيخ محمد عبده لتجديد الدين وتحديث التعليم مع الحفاظ على روح الشريعة، وبذل مالك بن نبي جهدًا كبيرًا في وضع أسس النهضة الحديثة من منطلق الأصالة.

وحَمَّلَ الدكتور زكي نجيب محمود الفكر مسؤولية التخلف الحضاري الذي يعيشه المجتمع العربي، وحدد أسس تجديده وتشكيل ذهنية عربية أكثر عقلانية، تحترم المنهج العلمي دون تعارض مع روحانيات الدين، وأكد على ثراء التراث العربي بعلماء أفذاذ -ربما- فاقوا نظراءهم في الغرب، ويكفي – على حد قوله - بالخليل بن أحمد الفراهيدي، مؤسس علم العَرُوض، مثالاً.

وكذلك، شهد العالم موجات من الأفكار السياسية والاقتصادية، منها الاشتراكية على يد كارل ماركس ثم لينين، قابلها فكر غربي رأسمالي قاده آدم سميث، وذاعت في أرجائه سياسة الأبواب المفتوحة لكينز؛ "دعه يمر.. دعه يعمل"، ولعلنا نجد في النموذج الصيني مثالاً للمواءمة بين الأصالة والمعاصرة؛ فالدولة الاشتراكية التي تأسست على تعاليم ماو الشيوعية، تحولت بفعل فكر دنج شياو بنج إلى نموذج فريد يجمع بين التخطيط المركزي والانفتاح الاقتصادي، مما مكّنها من تجاوز قرن المهانة والانطلاق نحو الريادة.

وتتجلى الآثار السلبية لــ"تأثير ديدرو" عند التردد أو الإحجام عن التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، بالحصول على شخصية ضعيفة مضطربة أشبه بكمال في ثلاثية نجيب محفوظ، حين تاه بين أفكاره المثالية وواقع حياته، مما دفع به إلى دوامة من الشك جراء الصراع العميق بين القيم التقليدية التي نشأ عليها، والتغيرات الفكرية والاجتماعية المفروضة عليه، بخلاف إسماعيل في رواية "قنديل أم هاشم"، ليحيي حقي، الذي واءم بين نظرة العوام المقدسة لزيت القنديل؛ "التراث/الأصالة"، وامتلاكه للعلم الحديث؛ "الحداثة/المعاصرة".
----------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

مقالات اخرى للكاتب

رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان (1)