اللغز الذي يُطارد مصر - إشكالية الثورة والانقلاب
ثورة 23 يوليو 1952 تشكل أحد أعمدة التاريخ المصري الحديث، لكن طبيعتها ما زالت موضع جدل، فعلى مدى سبعة عقود، ظلَّت أحداثها أشبه بجمرة تحت الرماد في الضمير المصري؛ حركة عسكرية استيقظ عليها الشعب فوجدها تحمل اسمه، لكنها بنت نظاماً ألغى صوته! فهل كانت تعبيرًا عن إرادة شعبية طامحة في التحرر والعدالة، أم مجرد انقلاب عسكري محدود الأفق؟
هذه الورقة تُجري عملية تشريح فلسفية لجثة الجدل الأكثر إثارة؛ هل كانت 23 يوليو لحظة التحرر الأكبر أم اللعنة الأبدية؟
وبمشرط روسو نكشف تناقض "العقد الاجتماعي" الذي كُسر قبل اكتماله، وبمنظار هيغل نُتابع دموع "الجدلية التاريخية" على مذبحة الديمقراطية، وبمطرقة جرامشي نحطم أسطورة الهيمنة العسكرية المُقدَّسة، وهنا حيث تتصادم طموحات الملايين مع دبابات قليلة، نضع يوليو على كفتي ميزان لا يرحم..
الفصل الأول: جذور الغليان وأدوات التغيير
من سار في شوارع القاهرة عام 1951، رأى مملكة التناقضات القاتلة، مرتع الاستعمار والملوك، والاحتلال المُقنَّع، حيث تسيطر بريطانيا على قناة السويس - شريان مصر الحيوي - والموارد الاستراتيجية، بينما يتحالف رجال القصر مع المستعمر لحماية امتيازاتهم.. وبينما الملك فاروق يصطاد ببنادقه الذهبية في الإسكندرية! كان الفساد يبتلع الفقراء؛ 85% من الفلاحين لا يستطيعون قراءة "بسم الله"، وبينما 0.5% من الإقطاعيين يمتلكون 35% من الأراضي الزراعية، وفلاحو مصر يحرثون الأرض تحت سياط الإقطاعيين، كان فاروق في قصر القبة، يوقع على منح امتياز النفط الإنجليزي مقابل "عمولة" خاصة! فكان الغليان يُنذر بانفجار طبقي وكأنما كتب ماركس هذا المشهد بنفسه: "هنا يُولد الثوار من بطون الجياع".
ومن ثم كانت خلية النحل التي هزت العرش (الضباط الأحرار)، والتحول السري من الصالونات إلى الثكنات، والمفاجأة الأولى، أنهم لم يكونوا "انقلابيين" بالمعنى الدموي.. بل ضباط غاضبون فقط، أبرزهم جمال عبد الناصر، الذي كان رافضًا خيار الإصلاح التدريجي بعد فشل الأحزاب في إنهاء الاحتلال وإسقاط الفساد، فاجتمعوا سراً عام 1949 في شقة متواضعة بحلم واحد هو "إنقاذ كرامة الجيش بعد مهزلة فلسطين"، والمفاجأة الثانية هي شرارة الانفجار فلم تكن سياسية بل أخلاقية! قضية "الأسلحة الفاسدة" 1948، حيث استمد الضباط الأحرار شرعيتهم من فشل النظام في حرب فلسطين وادعاءات قضية الأسلحة الفاسدة، التي كشفت تورط القصر في تعريض الجيش للإهانة، بتسليحه بسلاح عفن مقابل رشى. وهنا تحول الغضب إلى إعصار.
فكيف حوّل الضباط هزيمة الجيش إلى سلاح ثوري؟ فقد تسببت الهزيمة في مقتل 2000 جندي بسلاح بالي، كشف تورط القصر في صفقاته، مما كان له أثرًا نفسيًا كبيرًا على الشعب حيث انكسر حاجز الخوف من القصر، وتحول الجيش إلى بطل مضطهد بعد إهانة الضباط في غزة والضفة، مما ساهم في تشكيل خلايا الجيش السرية.
الفصل الثاني: الثورة في الميزان الفلسفي
كفة الحلم رَجَحَت للحظات تجسَّدت فيها "الإرادة العامة" لروسو في المشهد الأول من الثورة يوم حفر الفلاح حُدود أرضه بعد قرون من العبودية.. فلم يصدق الفلاح المصري أنه يملك تُراباً يدفن فيه سند ملكيته، فقانون الإصلاح الزراعي (1952) صادر 650 ألف فدان من الإقطاعيين، ووزعها على 340 ألف فلاح فقير، كما أن مصانع الحديد والصلب في حلوان والسد العالي لم تكن مشاريع اقتصادية فقط.. بل "أيقونات كسرت قيود التبعية"، تماماً كما أراد روسو: "الدولة أداة لتحقيق المساواة المادية".
والمشهد الأبرز في 26 يوليو 1956 - الإسكندرية، في صفعة ناصر التي هزت العالم: "أمَّمنا القناة.. سنبني السد من عرق جباهنا!" فكانت المفارقة روسو: سقوط ثلاثة آلاف شهيد في العدوان الثلاثي (بريطانيا/فرنسا/إسرائيل)، لكن النصر السياسي حوَّل ناصر إلى "تجسيد للإرادة العامة". أما كفة الكابوس، وكيف حَوَّلَ العسكريون الثورةَ إلى "سجن هيجلي" كما حذر "جرامشي"؟ فاللعنة الأولى كانت تكمن في "الهيمنة ببدلة عسكرية" وأوامر عسكرية مخططة لتفكيك الديمقراطية؛ بحل البرلمان وحظر الأحزاب السياسية، وتأسيس جهاز المخابرات تأسيسًا يتغاضى عن تأسيس حياة نيابية سليمة، فالعقد الاجتماعي انقلب إلى "عقد إذعان"، والشعب تنازل عن حريته مقابل الخبز والأمن.. فابتلعته ماكينة العسكرة!، أما اللعنة الثانية فكانت مفارقة السلطة بحسب جرامشي، وتحول الجيش من "قائد ثوري" إلى "طبقة سياسية مستقلة"، تسيطر على الاقتصاد عبر شركات قطاع عام تُدار بعقلية عسكرية، مما قمع الإبداع المدني وأجهض الديمقراطية.
ومفارقة يوليو في فكر حنة أرندت: "الثورة التي تبدأ بالعنف تخلق دولة تحتقر الحوار... فالعنف يولد نظامًا يقدس القوة لا الشرعية". وهذا يفسر تحول نظام يوليو إلى "جمهورية خائفَة" دائمًا تخترع الأعداء، فقمعت المعارضة باسم حماية المكاسب، فكان الإرث المرعب بتحويل "هيبة الدولة" إلى تابوت يُدفن فيه الحوار، وتحويل المواطنين إلى "رعية" تنتظر المنحة لا الحق. والخلاصة المُرة أن يوليو كشجرة أنتجت فاكهتين؛ فاكهة القمة حيث استقلال وكرامة وهمية بلا حرية، وفاكهة القاع حيث شعب مازال يتعلم أن "التحرر الحقيقي" لم يحدث بعد.. وهذا هو الجرح الفلسفي الذي ينزف منذ أكثر من 70 عاماً!
الفصل الثالث: إرث يوليو.. بين الحقائق والأوهام
كان المشهد الحي للتحولات الجيوبوليتيكية والاجتماعية يوم دخل الفلاح المدرسة في لمحات من زمنٍ كانت مصرُ فيه "قبلة الأحرار" بعد ألفي عام من الجهل.. حمل أبناء الفلاحين أقلاماً بدل المعزق! وكانت ثورة الأرقام الصادمة تجسد انفجارا تعليميا في قفزة تاريخية من 30% إلى 65% في محو الأمية خلال 20 عاماً (أسرع معدل في الشرق الأوسط وقتها)، وزلزال هز الإقطاع من تحرير 12% من أراضي مصر (3.5 مليون فدان) من بين مخالب الإقطاع – مساحة تُساوي دولة الكويت! وكان المشهد العالمي في تحول القاهرة لعاصمة للمُستضعفين، فمن المفارقة التاريخية أنه بينما كانت واشنطن وموسكو تتقاسمان العالم، كان ناصر يهزّ الأمم المتحدة 1960 "لا صوت يعلو فوق صوت المناضلين الأفارقة"، فالجزائر تشتعل بسلاح مصري 70% من أسلحة ثورة التحرير الجزائرية عبرت من الإسكندرية!
ولكن كان الورم الخبيث الذي قتل حلم يوليو وكارثتها الأولى هو ولادة "دولة المخابرات"، ففي عام 1953 تم حل البرلمان في رسالة مبطنة "لا كلام بعد اليوم"، وتمت خلال 1954 محاكمات الإخوان في تمثيل صارخ أن المعارضة تعني الخيانة، وفي 1955، تأسست المخابرات العامة على مبدأ سنرى كل شيء وسنسمع كل شيء.. والأسطورة المؤسِّسة: "حماية الثورة" – شعار حوَّل الأمن إلى إلهٍ يُضحَّى له بالحريات!
أما الكارثة الثانية، فكانت الاقتصاد العسكري.. الوحش الذي التهم المستقبل، بخرافة كبرى "الجيش يُنقذ الاقتصاد!" بينما الواقع هو سيطرة المؤسسة العسكرية على 40% من الاقتصاد المصري اليوم عبر 16 شركة كبرى في الغذاء، و75% من مشاريع البنية التحتية، واحتكار قطاعات السياحة والعقارات، والنموذج المطبق شاهد. فاقتصاد يُدار "كثكنة عسكرية" يقتل الإبداع.. لماذا لم تنتج مصر "تويوتا" أو "سامسونج"؟
ورغم أن الواقع يسجل إنشاء 1800 مصنع وطني (1952-1970)، إلا أن السياسات تسببت في شلل القطاع الخاص بالبيروقراطية، وكما أن الهتافات الناصرية ملأت أفريقيا وأسيا، إلا أنه تم سحق التعددية الفكرية، وصار من تراث يوليو فلاحًا يملك أرضًا ولكنه مواطن يخاف من ظله.. وبجراحة في الأوردة الخفية، والتساؤل لماذا تحولت الثورة إلى نظام وراثي؟ نجد القاعدة الجرامشية تقول:
"الثورة التي لا تُنتج مثقفين جدداً. تتحول إلى ملكية خاصة للقادة!"، وكمثال صارخ تحويل "هيئة التحرير" (1953) إلى "الاتحاد القومي" (1957) ثم "الاتحاد الاشتراكي" (1962) – آلة حزبية بلا فكر! ومفارقة أرندت: "الثورة التي تخاف من شعبها.. تلد وحشاً يأكل أبناءها!" والإثبات أن عبد الناصر نفسه أُصيب بالشلل السياسي بعد هزيمة 1967 لأن النظام قتل كل النقاش الحر.. والصدمة أن شمس يوليو لم تغرب بعد! والمشكلة ليست في 1952.. بل في أن مصر لا تزال تعيش داخل جسدهاالموروث! بذلك الجرح النازف من نفس التناقضات؛ شعارات وطنية وقيود أمنية، ونفس الاقتصاد؛ جيش يبني فنادق الفضاءات بينما 30% من المصريين تحت خط الفقر المدقع! والسؤال المُعلَّق: هل كانت يوليو خطيئة تأسيسية.. أم مجرد حلقة في سلسلة استبدادٍ أبدي؟
الفصل الرابع: الحكم الأخير.. لعنة يوليو التي لا تنتهي!
عبر فلسفة هيجل ومطرقة النقد، يمتد انقلاب يوليو الى انقلاب دائم، ولعبة الدومينو الهيجلية تكشف كيف أنتجت يوليو ثورة 2011؟ فالمشهد التأسيسي به ثلاث لقطات تكشف لعنة التناقض، فبينما كانت الأطروحة هي الاستعمار والإقطاع، والنقيض هو التحديث والتحرر، كان التركيب؛ ولادة دولة قومية ذات تناقض داخلي - تحرر اقتصادي- اجتماعي مقيد بحكم عسكري مناهض للديمقراطية - وهذا التركيب يفسر لماذا انفجرت ثورة 2011 كنقيض جديد لنظام يوليو، والانفجار الحتمي، لابد سينتج من التناقض النهائي الذي ولدته يوليو - حرية الاقتصاد مقابل سجن السياسة - فانفجر في ميدان التحرير 2011 كنقيض النقيض، حيث الشبان حملوا علم مصر على صدورهم بينما الجيش كان يحرس المتحف!
والميزان الأخير، يحمل على كفته سبعة عقود من حكم السيف! وكشف الأوهام التي أخفتها الشعارات، فكانت الأسطورة المؤسِّسة أو الولادة الملعونة والخطيئة الأولى في تحويل "الانقلاب" إلى "ثورة" عبر خطابات ناصر الملتهبة ("يا أبناء النيل!") كبديل مخدِّر عن الديمقراطية الحقيقية، والأغاني الوطنية المحفزة ("والله زمان يا سلاحي") كتضليل عاطفي يخفي سطوة الحكم العسكري. واللعنة المتوارثة من ناصر إلى السيسي في 3 محطات رئيسية؛ تأسيس شرعية للانقلاب، تحويل الجيش إلى مؤسسة إقطاعية ثم إلى دولة، ومن ثمة تكريس جمهورية الثكنات. وهنا يلح السؤال؛ لماذا تظل كفة الانقلاب هي الراجحة؟
ولكن بإمعان النظر في مؤشر الحكم نجد أن شرعية الحكم دائما لها ركائز أساسية، فإما دعاية الإرادة الشعبية أو دستور يجعل من الجيش ضامنا لبقاء النظام، وكانت نتيجة تداول السلطة، انتقالات دموية، والاقتصاد تحول من اقتصاد قطاع عام للشعب، إلى 78% من المشاريع الكبرى ملك للجيش، وتحولت الحرية من دولة العدالة الاجتماعية، إلى المرتبة 166 في مؤشر الديموقراطية. فما فعله ورثة الضباط الأحرار هو إعادة إنتاج الإقطاع في ثوب عسكري، لقد استبدلوا سيطرة المدنيين بالسيطرة العسكرية.. والمفجع أن الشعب الذي حررته يوليو من الإنجليز.. سُجن داخل وطنه بيد "أبطال التحرير"!، ولأن شبح يوليو لايزال حيًا، فقد عادت مصر إلى نقطة الصفر بعد محاولات الربيع العربي..
الخاتمة: ثلاث وصايا من التاريخ لثورات العرب المنتظرة
شجرة يوليو التي أنتجت فاكهةً من ذهب، جذورها كانت تختزن العلقم، هكذا يمكن اختصار التجربة الأكثر إثارة للجدل في الشرق الأوسط، فثورة 23 يوليو قدمت نموذجًا لثورة ناقصة؛ حققت حلمًا جماعيًا في الكرامة والاستقلال، لكنها افتقدت الرؤية الديمقراطية، فحولت الانتصار إلى نظام هجين، يجمع بين الخطاب التقدمي والممارسة الاستبدادية، وسقوطها في ميدان التحرير 2011 كان تأكيدًا لفلسفة أرسطو: "الدولة التي تقوم على القوة وحدها، مصيرها الانهيار حين تفقد تلك القوة شرعيتها الأخلاقية". واليوم يتجاوز درس يوليو مصر إلى كل الثورات العربية، فالتغيير الحقيقي يحتاج إلى حراك شعبي يتحرر من ثنائية "الانقلاب العسكري" و"الخطاب الشعبوي"، ليبني دولة القانون التي تجسد العقد الاجتماعي دون وصاية. وليتذكر العرب ثلاث وصايا من دروس يوليو وهي: الحذر من الشعبوية حيث يخرج علينا البطل الذي أنقذ الحياة، حاملًا شعارات الرخاء، محولًا الانقلاب إلى أسطورة، أما الوصية الثانية فهي "لا ثورة بلا دستور للشارع"، بينما الوصية الثالثة تكمن في الانتباه نحو صنع أعداء وهميين، فيصبح كل معارض خائن أو عميل. والكلمة الأخيرة هي أن أي ثورة على نظام قديم لا تكتمل إن لم يكن الشعب هو حاميها، وليست أي قوة أخرى حتى لو كانت قواته المسلحة.
-----------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش