- طه حسين يرفض الإذعان لمخاطر تفاقم ديونه البنكية.. فيهدد جامعته بالاستقالة اذا تراجعت عن تمويل كرسي الجغرافيا
- رفض مدير بنك مصر منحه قرضا اضافيا قدره ٥٠جنيها فيلمح بالايعاز للجامعة بوقف ارسال مرتبه للبنك وطالبه بمراجعة سعر الفائدة المرتفع
- أصداء الضائقة المالية هل بلغت العلاّمة سليم حسن .. فطلب منه العدول عن شراء حذاء جلد طبيعي لـ"سعاد"؟
- شومة العقاد ومرزبته النقدية مغلفة بـ "الفازلين" و"بودرة التلك" رحمة برأس عميد الأدب العربي!
- د. أحمد زكريا يحاضر طلابه عن جملة نجيب محفوظ البديعة: "وأخيرًا فاحت من بيت إبراهيم رائحة التقلية "!
- د. زكريا: أوراق ومراسلات محفوظ الخاصة تكشف أسرار عصر بأكمله وتروي حوارًا عميقًا بين شوامخ الادب والفكر
- طه حسين كان يعلم أن ازمة كتابه الشعر الجاهلي سوف تندلع مرة أخري .. فاحتفظ بوثائقها للمواجهة العاصفة.
قبل أن نقرأ
الحقيقة أن بيننا الآن - أطال الله عمره -أستاذًا من ألمع أساتذة التاريخ في مصر والعالم العربي. لم يكتف ببلوغ هذه المكانة فقط، بل هو محب للأدب وفنونه ، يكتب في تاريخ الفكر المصري الحديث .. وعن الأفغاني والشيخ المرصفي .. عن نجيب محفوظ وطه حسين، وذلك بأكثر مما يكتب في تخصصه، حيث يُدَّرِس تاريخ مصر الحديثة من عهد محمد على إلى عصر جمال عبد الناصر. كان دائما مشغولا بالتنقيب في الكتب والدراسات، في الادب والشعر والرواية .. ولعه بنجيب محفوظ أدركناه أيام الجامعة فهو الذي كانت ذاكرته تحتفى بجمل بديعة كاملة لعمنا نجيب، يعيد روايتها وتفسيرها لنا بأسلوبه الفريد .. روى لنا ذات محاضرة واحدة من هذه الجمل البليغة المعبرة، كان يرجو منها أن يعلمنا كيف نختصر القصص الطويلة في جملة واحدة رشيقة قصيرة: "وأخيرًا فاحت من بيت إبراهيم رائحة التقلية"!
هذه الجملة وردت في نص لمحفوظ .. تشعر بها كما عملة معدنية مسكوكة بطريقة مكتملة. لازوائد في الحواف .. لا نقوش منحنية أو مطموسة .. تختصر الجملة " مشوار حياة إبراهيم (أي ابراهيم ) قبل أن يفوح من بيته رائحة التقلية" .. تعبر عما حدث لإبراهيم أثناء مشواره الطويل، وصولا إلى فوحان رائحة التقلية ؟
هذا ما أوضحه - لطلابه - الدكتور احمد: إبراهيم هذا كأي إنسان، لابد أنه كان طالبا ما بالجامعة أو بغيرها.. مشغولا بتدبير أموره الحياتية، إقامته وسكنه في مدينة الطلبة أو في حارة شعبية، طعامه وملابسه، كتبه وكراساته، أبحاثه وامتحاناته، ديونه وجوعه.. انتهاءه من دراسته، والتحاقه بالخدمة العسكرية (أو العامة)، ثم خروجه وبحثه عن عمل، وبحثه عن بنت الحلال، فرزقه الله واحدة، ذهب مع أهله لقراءة فاتحتها، ثم اشترى شبكتها، وأسس لها مسكنا وفرشه بالأثاث، ثم عقد قرانه عليها في عرسٍ بهيج.. وفي الصباحية، في اليوم التالي للزواج، دخلت العروس المطبخ لإعداد الطعام وهنا.. هنا فقط "فاحت من بيتة رائحة التقلية"! هذا المشوار كله اختزله نجيب محفوظ بهذه الجملة عن "التقلية" .. وماسبق كان شرح أحمد زكريا الشِّلْق (الأستاذ .. الدكتور .. المعلم) لهذه الجملة، وكيف اختزل بها نجيب محفوظ مشوارًا طويلًا عريضًا في حياة إنسان - أي إنسان- في طريقه ليفتح بيتًا ويكون أسرة.
أحب أحمد زكريا الشلق نجيب محفوظ شأننا جميعا ، لكنه أيضا أولى إهتمامًا كبيرًا للدكتور طه حسين عميد الأدب العربي - أستاذ التاريخ اليوناني والروماني بكلية الآداب جامعة القاهرة.. هكذا نحن أمام أمرين: الاول هو الولع بالأدب وفنونه .. والثاني هو زمالة للعميد .. فقد يتصور أحد أن طه حسين درس اللغة العربية وآدابها وتخصص فيها.. والحقيقة أن كلاهما العميد والشِّلْق درسا التاريخ ، أولهما درسَ اليوناني والروماني في السوربون ، والثاني درسَ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة عين شمس.
وربما لم يكتب أحمد زكريا عن نجيب محفوظ ، أو يبحث في حياته وفكره وأدبه، ولكنه فعل ذلك مع العميد.. فقد عكف على دراسة أوراق طه حسين ومراسلاته، ونشرها في أجزاء، الأول منها تعرض للفترة من ١٩٢٥ وحتي عام ١٩٤٠، سنوات عمله أستاذا بكلية الآداب جامعة القاهرة.. وهي دراسة أعدها وأشرف عليها دكتور زكريا، ومعه الوزير السابق للثقافة ورئيس دار الكتب والوثائق القومية د. صابر عرب (تحقيق د. صبري العدل، محمود فوده ، نيفين علوان)
هذه الأجزاء ترسم صورة بانورامية لتاريخ مصر ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي، وحتي قرب نهايتها بقليل. أبطال هذه الرسائل والأوراق الخاصة ابتداء من صاحب الجلالة ملك مصر فاروق الأول (٢٨ أبريل ١٩٣٦- ٢٦ يوليو١٩٥٢) حيث كتب له رسالة في يناير ١٩٣٨ من دون تحديد لليوم.. مرورًا بأساطير مصرية كالعقاد وأحمد لطفي السيد وعلى ومصطفى عبد الرازق والدكاترة زكي مبارك ومحمد مندور وسليم حسن ونحيب الهلالي ومي زيادة وسليمان حزين وأحمد أمين وخليل مطران وعبد الرزاق السنهوري وتوفيق الحكيم وسهير القلماوي وأمين الخولي ومحمد شعيرةومصطفى الديواني ومصطفي زيوار، وليس انتهاء بوزراء المعارف والداخلية والمالية وحتي مدير بنك مصر، الذي تجد له رسائل متبادلة مع العميد، تكشف لك أنه كان "مديونا" مثل أي مبدع مصري، وأنه يمكن أن يأتي عليه أول الشهر فلا يجد له مرتبا يقبضه، بعد أن ذهبت أمواله ومكافأته وفاء لبعض ديونه!!
الرجل ذو التاريخ الأسود!
صورة مصر في الثلاثينات، كتبها ورسمها العميد في رسالة خطيرة أرسلها لرجل تاريخه أسود، هو إسماعيل صدقي باشا (يونيو ١٨٧٥ -٩ يوليو ١٩٥٠) وهو أحد أخطر الشخصيات في تاريخ مصر وأكثرها استبدادًا، ولعل وجوده في السلطة ورئاسته للوزارة أكثر من مرة هو الذي عجل بسقوط الملكية في مصر. واندلاع ثورة يوليو ١٩٥٢. هذا الرجل عندما تولى رئاسة الوزراء في عهد الملك فؤاد الأول وضع دستورا جديدًا عام ١٩٣٠، يكرس فيه نفوذ الملك أكثر وأكثر، وقد أثار احتجاجات مذهلة، أدت الى رفضه وإعادة دستور ١٩٢٣. عانت مصر كلها، والجامعة على وجه الخصوص، من استبداد حكومة إسماعيل صدقي في فترة الثلاثينيات، حين شهدت الجامعة في عام 1932 معركة شهيرة من معارك استقلال الجامعة، حيث عمدت حكومة صدقي إلى الإطاحة بطه حسين من عمادة كلية الآداب. وانتفض الطلاب، وتظاهروا عند قصر عابدين، مطالبين الملك بعودة طه حسين إلى منصب العمادة احتراما لمبدأ استقلال الجامعة. وأيدهم الأساتذة، وتوقفت الدراسة وعم الاضطراب الجامعة، ولجأ إسماعيل صدقي إلى الحل الأمني. فأرسل قوات الشرطة إلى داخل الحرم الجامعي لفض اعتصام الطلاب، فقدّم لطفي السيد رئيس الجامعة آنذاك استقالته احتجاجا على الإجراءات القمعية لحكومة صدقي واعتدائه على استقلال الجامعة.
عاش طه حسين في فرنسا في أعقاب عزله من منصب العميد.. وهناك في باريس حيث يقضي شهور الصيف مع أسرته، يكون على تواصل مع محبيه وحتي أعدائه!
هل يمكننا أن نعتبر أن العميد طه حسين يكن كراهية شخصية للمستبد إسماعيل صدقي رئيس الوزراء؟
كانت إقالة العميد سببا في تعثره ماليًا بالطبع، ويكشف ذلك الدكتور زكريا، والمراسلات البنكية المتبادلة بينه وبين مدير بنك مصر الذي رفض أن يقرضه بتعليمات طبعًا. يقول الدكتور أحمد زكريا: مجموعة المراسلات هذه تضم "ملفًا كبيرًا عن قضية الحرية الفكرية وحرية البحث العلمي في مصر واصطدامها بالسياسة، منذ أثيرت أزمة كتاب في الشعر الجاهلي عام ١٩٢٦. احتفظ طه حسين بالوثائق، لإدراكه أن الحكومة (ونوابها) ستثير الازمة مجددًا عام ١٩٣٢، تمهيدًا لإطاحته من منصبه، كما توضح تدهور أوضاع الجامعة بعد إبعاده عنها، وتدخل الوزارة في شئونها، كما توضح أن العميد طه حسين الذي تحمل تبعة قراره بعدم الرضوخ لمطالب صدقي، صار يعاني في حياته الخاصة أشد المعاناة، بعد ضياع مصدر رزقه، واضطراره إلى الاقتراض ليتمكن من أن يعيش.
تضحية فادحة.. وديون أفدح
عميد الكلية طه حسين يرسل خطابا جديدًا إلى مدير الجامعة باستقالته في ١٦مايو ١٩٣٨ إن لم يرد إلى الكلية كرسي الجغرافية الذي تقرر لها واعتمد جزءا من ميزانيته، لكنه لم ينفذ، ويلاحظ الدكتور احمد زكريا أن طه حسين يهدد بالاستقالة مبديًا استعداده للتضحية به، حتي لايضحي بمصالح كليته، وكان هو نفسه يعاني من ضائقة مالية، كشفت عنها رسالته إلى مدير بنك مصر، التي يطلب فيها منحه سلفه شخصية قدرها خمسون جنيها تخصم أقساطها من مرتبه !
فبتاريخ ١٤يونيو ١٩٣٨ يبعث العميد طه حسين برسالته إلى مدير بنك مصر.. جاء فيها:
حضرة صاحب السعادة مدير بنك مصر :
أتشرف بابلاغكم أني تلقيت كتابكم الذي تأسفون فيه لعدم اجابة ماطلبته من اقراضي خمسين جنيها تضاف إلى ماعلى للبنك، ومن وقف خصم القسط الذي يستقطع مرتبي إلى أن أعود من أوروبا في أول أكتوبر. فاسمحوا لي بأن ألاحظ آسفًا أنني لم أكن انتظر من البنك الذي أعامله معاملة حسنة فيما أظن هذا الرد. وازاء تشدد البنك علي سأضطر إلى أن اطلب إلى الجامعة ألا ترسل مرتبي إليه وسأستانف دفع القسط من أول أكتوبر. وأرجو منذ الآن أن تتفضلوا فتأمروا بالنظر فيما يتقاضاه البنك من الفوائد على هذا الدين، فقد يخيل إلي أنها مرتفعة جدًا، وأني قد دفعت من الفوائد ما يحسن معه النظر في تخفيضها. (والخطاب ممهور بخاتم طه حسين).
جزمة سعاد!
هل وصلت أصداء هذه الضائقة المالية إلى سليم حسن (عالم الآثار وتاريخ مصر القديمة وصاحب الموسوعة الشهيرة فى تاريخ مصر) وكان قد بعث برسالة إلى طه حسين في باريس يختمها بالسلام إلى الست أم فونت وإلى السيدة جيجيت والسيد كلود والأخ فريد (أسرة العميد) "على أن أغرب مافي خاتمة الرسالة قول سليم حسن :"وأما سعاد فأرجو أن تكون أحسن حالًا مما كانت عليه، ولا أريد أن تشتري جزمة طبيعية بل اشتري لها أي نوع آخر من الجزم"!
بحق يعتبر الدكتور أحمد زكريا أن هذه الرسائل على اختلاف مضامينها مصدرا مهما للكتابة ، ليس عن طه حسين فحسب، وإنما عن عصر بكامله ومن جميع جوانبه، والرسائل المنشورة ليست مجرد خطابات شخصية وإنما هي بمثابة وثائق أدبية وفكرية وثقافية أقرب إلى الحوارات بين شوامخ المفكرين والمثقفين، تشكل في مجملها ملامح عصر بأكمله، حيث تناولت كل القضايا ابتداء بالادب وانتهاء بالمعارك الحزبية، وعلى الرغم من أن محورها الثقافة والفكر، لكن بعضها تناول قضايا شخصية وإنسانية تعد ذات قيمة أدبية رفيعة المستوى.
رسالة إلى الملك فاروق
ولعله مما يجدر الإشارة إليه هنا، تلك الرسالة الخاصة بملك مصر فاروق الأول المؤرخة في يناير ١٩٣٨:
مولاي صاحب الجلالة :
مقامك السامي يامولاي عنوان رائع لمصر الخالدة، فشخصك الكريم رمز لمجدها العظيم ، وشبابك النضر صورة لأملها الباسم، بذلك يؤمن طلاب الثقافة من معلمين ومتعلمين وهم ينتهزون فرصة قرانكم السعيد، فيستأذنون في أن يرفعوا إلى جلالتكم هديتهم هذه الضئيلة في نفسها الكبيرة في غايتها، التي إن امتازت بشيء فإنما تمتاز بانها صورة ماتخلص مصر لكم من حب، وما تعقد بكم من الرجاء، أتم الله على جلالتكم نعمته، وأيد ملككم بروح منه وجعل عصركم السعيد عيدًا كله لشعبكم الوفي الأمين.
يلمح الدكتور احمد زكريا أن الرسالة عبارة عن مسودة بالقلم الرصاص وفي أسفلها تاريخ يناير ١٩٣٨ دون تحديد لليوم، ويلاحظ أن المصريين جميعا كانوا يستبشرون خيرًا بالملك الشاب فاروق الأول في سنواته الأولى، وكان من واجب الشخصيات العامة تهنئته بمناسبة عقد قرانه الذي تم في ٢٠ يناير ١٩٣٨ على صافيناز ذو الفقار التي حملت اسم الملكة فريدة.
شومة ومرزبة وفازلين وبودرة تلك !
رسالة العقاد أو شومته أو مرزبته الى طه حسن والتي تتصدر هذه المجموعة من الرسائل فهي تكشف أن العقاد كان يكتب بالشومة والمرزبة وإن كان يضع على رأسيهما بعضا من بودرة التلك المرطبة، أو الفازلين الذي يجعل الواحدة تنزلق فلا تدمي كليا بحيث تتطلب العلاج بالميكروكروم (بلغة ذلك الزمان) أو البيتادين بلغة هذه الأيام.
الرسالة البليغة الكاشفة أولا عن أسلوبي الكاتبين، طه حسين والعقاد، ستطلع القاريء الكريم أيضا على كيف كانت صورة مصر في ثلاثينات القرن الماضي.. قبل أعوام قلائل من طوفان التغيير الذي اندلع عام ١٩٥٢، مع قيام ثورة يوليو.
من عباس محمود العقاد
في ٢١يناير ١٩٢٥
حضرة الأستاذ القدير الدكتور طه حسين:
اشكر لك ثناءك واهتمامك وأبادلك التحية مدحًا وقدحًا بالصاع صاعين والباع باعين! وأعجب بشجاعتك في تقريظ كتابي ونقده في صحيفة "السياسة " وإن كنت أسأل نفسي هل هي شجاعة حقا! فإن الشجاعة هي معالجة المكروه والإقدام على المحذور، ولا أظنك إلا ملتذًا بما في شجاعتك الأدبية من إيذاء عقائد الناس واحراج صدورهم ولو كانوا من أنصارك وأصحابك! فهي شجاعة حبيبة إلى نفسك تقدم بك على ما تهوى لا على ما تكره، وتجنح بك إلى ما ينيلك لذة وسرورًا لا إلى ما يكلفك جهدًا وصبرًا، وكأنك تحتاج أحيانا إلى شجاعة للكف عن هذه الشجاعة، ولا أزيد على ذلك فنخوض في غموض الفلسفة التي قلت إنك لا تسيغها، وربما كان ذلك لأنك تقرأها قراءة متفرج لا قراءة من يهتم بموضوعاتها ويشغل خاطره بالبحث عن أسرارها.
أما كلامك عن الخيال في رسالة الغفران، فأنا أوافقك أولا على تعريف الخيال وأري معك أنه ملكة تستمد الصور والنتائج من الأشياء الموجودة وتؤلف بينها تأليفًا غريبًا يبهر النفس ويفتنها"
الرسالة تنتقل بعد ذلك إلى مراحل اخري من قسوة اللغة وشدة النقد وإبراز التناقضات إبرازا يهز كيان صاحبه، ولعل هذا كان سببا في أن الدكتور أحمد زكريا والدكتور صابر حينما أعدا رسالة العقاد للنشر وقد تصدرت الكتاب فإنهما لم يعلقا علي الرسالة بأي كلمة !
-------------------------------
بقلم: محمود الشربيني
من المشهد الأسبوعية
في الحلقة التالية: الساخر طه حسين مجاملًا جلاده إسماعيل صدقي: شكرًا على استبدادك!