لمن تكتب أقسام وكليات اللغات الأجنبية رسائلها في مصر؟ سؤال لا يبرح أن يطل على ذهني كلما ذهبت إلى أي مكتبات الجامعات المصرية، أكثر هذه الأقسام، وما أكثر اللغات التي تُدرَّس فيها، ومنها لغات لا أطمح حتى إلى تعلمها، لا كسلًا، بل لأن العمر أضيق من أن يتّسع لكل ما يشتهيه العقل.
ستتفاجأ في هذه المكتبات أن الذين يعدون رسائلهم العلمية في اللغة الصينية، اليابانية، العبرية ...إلخ يكتبون رسائلهم العلمية بهذه اللغات، فلمن يا ترى يكتبون هذه الرسائل العلمية ومن سيقرأها؟! هل أهل هذه اللغات التي هم بالتأكيد لن يهتموا بدراسة غريب لأدبهم أو تراثهم إلا في ظروف خاصة، ليطرح ذلك سؤالًا آخر: أليس الأَولى أن تُتاح هذه الرسائل باللغة العربية، ليقرأها جمهورنا العربي الذي هو في أمسّ الحاجة للتعرّف على ثقافات هذه الشعوب وآدابها؟ بدلاً من أن تبقى هذه الرسائل حبيسة الأرفف، تأكلها الأتربة دون أن تترك أثرًا.
التقيت بعدد لا بأس به من المستشرقين، يعدون رسائلهم عن الأدب والثقافة العربية فهل تعلم بأي لغة يكتبون رسائلهم؟ هل تعتقد أنها باللغة العربية؟! لا بل بلغتهم الأصلية، يقرأون ويمحصون المصادر بالعربية لكن حين يكتبون رسائلهم تكون بلغتهم الأصلية.
ذات مرة ألتقيت مستعربًا يابانيًا أعد رسالتيه للماجستير والدكتوراة عن نجيب محفوظ، فسألته أن ينشرها في مصر، فرد علي:«أظنها لن تكون ذات قيمة كبيرة للقارئ العربية خاصة وأن بها الكثير من الهوامش التي تهدف إلى تعريف القارئ الياباني طبيعة الثقافة التي يكتب عنها نجيب، وكل ما هو غير مألوف للقارئ الياباني»، فقلت له لا بأس من نشرها بالعربية لنرى كيف رأيت إبداع نجيب محفوظ يابانيًا، فقال لي «إذن أنا بحاجة إلى ترجمتها العربية أولًا وتخليصها من الزوائد الموجهة إلى القارئ الياباني؛ لكني لا أظن أنها ستقدم جديدًا للقارئ العربي».
أرأيت كان هدف الرسالة خدمة الأدب والثقافة اليابانية؟ فهي أطروحة موجهة بالأساس إلى القارئ الياباني لذا كتبت باليابانية ولم يكتبها بالعربية، وبالمناسبة هو مستعرب يجيد العربية فصحى وعامية وصاحب طلاقة في الحديث، وله باع طويل مع العربية من المحيط إلى الخليج.
التقيت على مقهى زهرة البستان بوسط البلد بمستشرقة أمريكية أعدت رسالتها للماجستير عن المجلات التي أصدرها شعراء التسعينيات، ونالت بها درجة الماجستير من الجامعة الأمريكية بالقاهرة. هل تعلم بأي لغة كتبت الرسالة طبعًا باللغة الإنجليزية، وهذا هو السائد في كل جامعات العالم تقريبًا إلا عندنا.
علمًا بأن أيا من الطلاب الذين يكتبون هذه الرسائل بلغة غير لغتهم الأصلية لن تبلغ إجادتهم للغة الجديدة درجة الجودة التي تجعلهم يعبرون عما يجيش في عقولهم من أفكار، لذا يذهبون للتبسيط لأن معينهم اللغوي لن يساعدهم عن التعبير عن أفكارهم باللغة المكتسبة.
ليبقى السؤال قائمًا: لماذا لا تُكتب هذه الرسائل بالعربية؟ لماذا تُغلق أبواب المعرفة في وجه القارئ العربي وتُمنح بلغة لا يقرؤها، ولا تعبّر عنه؟ بل يُستدعى من هذا سؤال آخر أكثر إلحاحًا: ما جدوى هذه الأقسام الأكاديمية وما تنتجه من رسائل علمية إن لم تكن موجهة إلى الداخل؟ إذا لم تخاطب ثقافتنا، ولم تُسهم في وعي مجتمعنا، فعلام نُنجزها؟ ولمن؟.
--------------------
د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية
لمن تكتب أقسام وكليات اللغات الأجنبية رسائلها العلمية؟