الحياة رحلة في قطار أو باخرة أو أي وسيلة لنقل الركاب، فيها نلتقي الطيبين، الذين تصافح ابتسامةُ محياهم شغاف قلوبنا، وتلامس أناملهم الحانية أيادينا عند اللقاء وعند الفراق، فيسري نور الألفة والمحبة في أوصالنا، ويملأ قلوبنا أمل بأن نكون وهؤلاء من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
وفي تلك الرحلة أيضا نلتقي غير الطيبين، الذين نلهج لله بالدعاء طول الطريق بأن يكفينا شرهم، وألا يطولنا منهم مكروه، وأن تنتهي الرحلة بسلام، لنفرّ من وجوهم (العِكرة)، هكذا أنطقها بالعامية لأنّها أكثرُ تدليلا على قُبح أثرهم .
الحاج عثمان الشاذلي ابن قرية العمار الشقيقة بمحافظة القليوبية، بلد المشمش وبلا فخر، هو واحدٌ من هؤلاء الطيبين، الذين التقيت بهم مرتين لا أكثر في مجلس مولانا الشيخ عبد العظيم أبو صالح، حيث تجتمع الطرفة مع الشعر والأدب، والكلام في قال الله، قال رسوله، ويكون في خدمة الجميع المدعو (عَبورة) أيقونة المجلس، وإن كان لا يخدم أحدا لوجه الله، وإنما لسان حاله: (أبجني تجدني)، وهو ما وفّر له ثروة، (نمسك الخشب)، ولكنه لا يصرف منها جنيها إلا (بخلع الضرس) !
أعود للحاج عثمان، والذي يُميزه عن الآخرين شدُّة حبه للنبيِّ صلى الله عليه، وسلم - وقطعا - هنيئا له، إذ يُحشرُ المرء مع من يحب.
وعلى كلامي هذا شاهد ودليل، إذ كنتَ تراه دائم الصلاة على النّبيّ، تعدُّ له في المجلس الواحد مئات الصلوات، وكان صمته فكرا، وكلامه تسبيحا وذكرا، ونتيجة لذلك، كان الله يكفيه هموم الحياة وإن عظمت، كما ثبت عند الترمذي عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه أنّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله إِنَّي أُكْثِرُ الصلاةَ عليكَ فكم أجعلُ لكَ من صلاتِي، فقال ما شِئتَ، قال قلتُ الربعَ، قال ما شئتَ فإِن زدتَّ فهو خيرٌ لكَ، قلتُ النصفَ قال ما شئتَ فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ قال قلْتُ الثلثينِ، قال ما شئتَ فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ، قلتُ أجعلُ لكَ صلاتي كلَّها قال: إذًا تُكْفَى همَّكَ ويُغفرْ لكَ ذنبُكَ»، فالله نسأل لنا وله غفران الذنوب .
نعم، كفى الله الحاج عثمان هموم الحياة، فقد ابتلاه الله بالمرض فصبر واحتسب، وشأنه شأن أرباب الأسر المصرية، قابلته كثير من الصعاب، فكان يتلقى هذا بثغر باسم وقلب راض، ولسان شاكر، وتقبيل لراحة يده كفا وظهرا .
الحاج عثمان أجمع الكلُّ على محبته، وأوصاني أكثرُ من واحد ممن جالسوه بأن أكتب عنه تخليدا لذكراه، وإن كنتُ أعتبر ذلك تخليدا لذكراي أنا، فالكلام عن الطيبين شرف للكاتب وليس للمكتوب عنه.
الحاج عثمان الشاذلي هو صديق أولاده، الرحيم بزوجته، الكريم لزوّاره، المعطاء للفقراء، الصاحب لصاحبه، فما تخلّف يوما عن قضاء واجب اجتماعي، أو تلكأ في مساعدة ضعيف ومدّ يدّ العون لمُحتاج .
هو المحبّ لله ولرسوله، الحريص على الخير، يجري وراءه ( كهبوب الريح)، وقد يسّر الله له بناء مسجد تُقام فيه الجُمع والصلوات، فهنيئا له بإذن الله ببيت في الجنة .
فقده ابنه محمود، وأحسّ بفراغ موحشٍ بعد فراقه، وخاطبني أكثر من مرة في أن أصوغ عنه مقالا، فأكدت له أنّ هذه رغبتي بالفعل ولكني أتحين الظروف، وأظنها قد حانت .
يا لله .. هكذا يمضي الطيبون سريعا، ولكنها سنّة الحياة، لا خلود ولا بقاء، فالكلُّ ميت، ولا يبقى للإنسان سوى عمله وسيرته الطيبة .
وللعلم .. الشيخ عبد العظيم أبو صالح من أصحاب الرأي عندي، وأكد لي مرارا شدة حزنه على فقد أخيه الأكبر الحاج عثمان الشاذلي، وكذلك عمنا أحمد جاد الله، صاحب النكتة الحاضرة، والذي يملك القدرة على أن (يضحك طوب الأرض)، كان كلما ذُكر الحاج عثمان لمعت عيناه بالبكاء، وهو ما يؤكد أنّ الفقيد الراحل كان ذا أثر طيب.
مرضُ الحاج عثمان ووفاته، هي أحداثُ مسلسل متوالي الحلقات، وسريعا جدف بقارب الرحيل ليترك دنيا الناس، بهمها ونكدها؛ لينعم بجنة ربه بإذن الله، هكذا نحسبه، والله حسيبه .
رحم الله الفقيد، ووسّع له في قبره، وألحقنا به على الإيمان ومحبة النبيّ العدنان، وحقا، يحشر المرء مع من أحبّ.
---------------------------
بقلم: صبري الموجي
- مدير تحرير الأهرام