لماذا نشعر أحيانًا أننا نحتاج للتغيير؟ لماذا يُصبح الأثاث الذي شاركنا ذكريات العمر قديمًا فجأة، والملابس التي اعتدناها غير مناسبة؟
أعادني مقال الدكتور عبد الله الردادي، المتخصص في الاقتصاد، والمعنون "لا تستغن عن ردائك القديم"، إلى ظاهرة "تأثير ديدرو"، نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو (1713-1784)، المتخصص في علم الأنثروبولوجيا (علوم الإنسان من حيث الثقافة واللغة والتقاليد).
كان ديدرو قد نشر مقالة مفادها أن اقتناء ممتلكات جديدة قد يؤدي بالفرد إلى دوامة استهلاكية تدفعه لاقتناء المزيد من المستلزمات غير الضرورية، لترتفع دورة الاستهلاك.
الجديد في الأمر أن شركات التسويق باتت تركز على هذا المبدأ بشكل يبدو عفويًا للوهلة الأولى للمستهلك، فالإعلان عن شقة أو فيلا في منطقة ساحلية متميزة أو مجمع سكني راق، يعرض على الشاشة مساحات خضراء، وديكورات عصرية وأثاث فاخر، وعلى مقربة تلمح سيارة فارهة مع أسرة رياضية يرتدي أفرادها أرقى أنواع الملابس.
مستوى معيشة لا يتوافر إلا لشريحة محدودة في أعلى السلم الاجتماعي، تجعله الإعلانات شغفًا لطبقات اجتماعية يزاحم بعضها بعضًا على لقمة العيش.
تروج شركات التسويق لمفهوم (التعبئة/الحشد Packaging) بمعنى أن حصولك على خدمة أو سلعة بعينها يجعلك تعيد النظر لا إراديًا فيما تملكه بين يديك من سلع وخدمات، تصبح قديمة فور امتلاكك للجديد، الأمر الذي قد يدفعك لاستبدال القديمة بأخرى حديثة تلائم ما حصلت عليه.
من هنا يلفت هذا المقال النظر إلى امتداد "تأثير ديدرو" إلى سلوكيات الأفراد في علاقاتهم الاجتماعية والعملية.
دعنا نضرب مثالاً توضيحيًا، تنشأ الأسرة المكونة من أب وأم وأبناء في مستوى اجتماعي معين يُحدده مستوى الدخل وعنوان السكن وما يرتبط به من جيران وعلاقات اجتماعية وعادات وتقاليد، فالمقيم في حي السيدة زينب مثلاً يجد نفسه مرتبطًا بشكل ما باحتفالات مولد عقيلة بني هاشم في الثلاثاء الأخير من شهر رجب، وما يرتبط به من حلقات ذكر وتلاوة، وكرنفالات اجتماعية تُمدُ فيها الموائد وتوزَّعُ الأطعمةُ على زوار المسجد، وفُرُشٍ تجارية لبيع الحمص والحلاوة، وغير ذلك من مظاهر.
فإذا ما شاء الله لهذه الأسرة، لسبب ما، أن تنتقل للإقامة في منطقة "جاردن سيتي"، التي لا تبعد أكثر من 2 كيلومتر عن السيدة زينب، فإنها قبل أن تكتسب عاداتها الجديدة، سوف تعيد النظر في عاداتها القديمة التي تربت عليها، لتصبح أقرب إلى تراث منها إلى واقع معاش يذكره أفرادها في غبطة، ثم يتحول مع الوقت إلى تاريخ قد تضعُف معه روابطهم بجيرانهم القدامى، ليس بسبب البعد المكاني، فالمسافة جد قصيرة، ولكن بسبب النقلة الاجتماعية وما رافقها من عادات جديدة أسقطت عادات قديمة، حتى أنك لتجد تلك الأسرة تنفر من تصاميم ملابسها التي اعتادتها لعقود وتستبدلها بأخرى ذات سمت إفرنجي حديث، وربما طالت دائرة التغيير أيضًا تلك السيارة العتيقة كالحة اللون، وما تركته فيها الأيامُ من آثار، فإذا بها فجأة تلفت النظر بنشازها بين غيرها من ماركات حديثة تجذب الأنظار ببريقها وجميل تصميماتها، لتبدأ دورة استهلاكية تمحو القديم وتستبدله بجديد يكبدها الكثير من المال، وهكذا تنشأ هوة فاصلة بين هذه الأسرة وجيرانها القدامى، في تطبيقٍ لا إرادي لتأثير ديدرو.
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فانتقال أحد أبناء هذه الأسرة التي انتقلت من السيدة زينب إلى جاردن سيتي، وحافظت على تماسكها، إلى أحد المجمعات السكنية الفاخرة أو السفر للعمل في الخارج، سوف يجعله بدوره يعيد النظر في علاقاته الأسرية، فيرضى عن هذا وينتقد ذاك، وربما تشرنق؛ وتلك طامة كُبرى.
ولعلك عزيزي القارئ وجدت أثرًا لتأثير ديدرو في محيط عملك أصاب أولئك النفر الذين هبطت عليهم ثروة أو قُذف بهم إلى كراسي ذات شأن، فأعادوا النظر في علاقاتهم بمحيطهم العملي، رؤساء ومرؤوسين، ذلك أنهم يرون في البشر من حولهم سلعًا استهلاكية يرتبط تاريخ صلاحيتها بمدى الحاجة إليهم.
وإذا كان قبول ديدرو بيجامة نوم فاخرة كهدية من أحد أصدقائه انتهى به الاستدانة بعد ما بَدَّلَ وغير ما حوله من أثاث وملابس وحتى مطبوعات، فَسَجَلَ ذلك في مقالٍ منبهًا ومحذرًا بقوله "كنتُ أمتلك رداء نومي القديم، واليوم أصبحتُ عبدًا لردائي الجديد... احذروا دنس الثراء المفاجئ".
---------------------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]