الحركات الشعبوية ومظاهرها المختلفة ليست جديدة فى عالمنا، وذلك على الرغم من عمومية، وسيوله، وبعض غموض المصطلح فى الخطابات السياسية، وأيضا فى بعض الدراسات الأكاديمية، لأن المصطلح يدور بين ثنائية المديح، والقدح الضدية، ومن الملاحظ أن المصطلح جاء مع الأفكار الشعبوية فى إطار الديمقراطية الليبرالية، مع الرغم من أن هذه الحركات تبدو مناهضة لبعض الأفكار والقيم السياسية الليبرالية، وإزاء النخب السياسية، والاقتصادية المسيطرة.
الأفكار والجماعات الشعبوية ليست وليدة القرن الماضى والعقود الماضية من القرن الحالي، وإنما ظهرت فى فرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة فى القرن التاسع عشر، ومواكبة للسعى إلى تعزيز الديمقراطية الليبرالية فى السياقات التاريخية والسياسية لهذه المراحل، وهى حركات تحاول تجاوز النخب المسيطرة، ومؤسساتها، وتتحدث دوما باسم الشعب، أو الأمة ، - أوالجموع الشعبية الغفيرة -، باعتباره كتلة ضخمة، تسعي إلى تحقيق مصالحها الاجتماعية والاقتصادية فى مواجهة مواقع القوة المسيطرة فى كل بلد.
السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعبويات القرن التاسع عشر، تختلف عن شعبويات القرن الماضى وأوائل القرن الحالى، وإلى الآن. فى كل مرحلة بدا تعريف الشعبوية عاماً، وسائلاً، ويفتقر إلى الضبط الدلالى، حتى أن القواميس الكبرى ذات الرسوخ مثل أكسفورد، وكامبريدج يقدمان تعريفا عاما، وغير محدد.
قاموس أكسفورد يعرف الشعبوية (Populism) "بأنها ذو نهج سياسى أو أيديولوجية تؤكد على الشعب ككتلة موحدة وقوية، وتعتقد بأنها فى صراع مع النخبة، أو المؤسسة الحاكمة وأن مصالح الشعب تتعارض مع مصالح النخبة الحاكمة".
قاموس كامبريدج يعرف الشعبوية بأنها "أفكار أو أنشطة سياسية تهدف إلى كسب تأييد عامة الناس من خلال منحهم ما يريدون" ويشير إلى أن هذه الأفكار فى خطاباتها معادية للنخبوية، والمؤسسة الحاكمة، وأن الخطابات الشعبوية، وأنشطتها وممارساتها، تشير إلى دعم العدالة الاجتماعية، والتخفيضات الضريبية، وزيادة الأجور، وتوفير فرص العمل، والتعليم والصحة المجانية.
يمكن لنا تعريف الشعبوية السياسية لاسيما السلطوية بأنها سردية أيديولوجية وخطابية وجيزة، تهدف الي تعبئة الشعب / الجماهير الغفيرة ، وتنظر إليه بوصفه كتلة وكأنها متجانسة وبلا فئات او طبقات اجتماعية وصراعات بينها، وتحاول النطق باسمه ومصالحه الاقتصادية والاجتماعية وهويته الوطنية الجامعة او المتخيلة، ودفاعها عن السيادة السياسية والاقتصادية في مواجهة الإمبريالية الأمريكية، وايضاً خطابها النقدي الحاد والصارم والهجائي الخشن في مواجهة النخب التقليدية، وازدرائها، والهجوم عليها، بوصفها مستغلة لمصالح الشعب، ومنفصلة عنه، هي والمؤسسات القائمة التي تديرها هذه النخب، وترفع الشعارات السياسية المطلبية الحاملة لحقوق العمال والفلاحين، والطبقة الوسطي الصغيرة، والمهمشين، والدفاع عن حقوقهم في التعليم والصحة، وخفض الضرائب، والضمانات الاجتماعية .
ثمة اختلاف بين الشعبويات في أوروبا مع اليمين المتطرف، وفي الولايات المتحدة في ظل حالة دونالد ترامب وشعبويته الغرائبية في سلوكه وأدائه السياسي، إلا أن ما وراء هذا القناع السياسي وتمثيله واستعراضاته، ولغته الخشنة مخاطبة شعبوية للأمة الأمريكية. هذا النمط من الشعبويات الغربية جاء من قلب النظم الديمقراطية الليبرالية، ومن خلال آلياتها والإعلام التقليدي والرقمي تبث خطابها الشعبوي وتصل للسلطة عبر الانتخابات العامة، ثم تطبق بعض سياساتها.
بعض الشعبويات السلطوية في أمريكا اللاتينية تأتي عبر الانتخابات ثم تنقض علي الديمقراطية باسم مصالح الشعب وتتحول الي ديكتاتوريات، وتسلطيات سياسية. الشعبويات السلطوية العربية قرينة التسلطيات السياسية والاستبدادية في المنطقة، ومن ثم لم تأت من نظام ديمقراطي فعال، وإنما من تزوير الإرادة العامة للشعوب الانقسامية في المشرق العربي – حالة حزبي البعث السوري، والعراقي، وليبيا العقيد معمر القدافي، وجزائر هواري بومدين والحالة المصرية التاريخية.
السياسات الشعبوية وقادتها يدافعون عن حقوق الناس عموما/ الشعب فى مواجهة الأثرياء وذوى القوة فى المجتمع. يستثير الخطاب الشعبوى المشاعر الجماهيرية الغاضبة والمعادية للنخب الحاكمة، والمؤسسات التى تسيطر عليها. شاع المصطلح فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الحالى، على الرغم من ظهور الشعبوية وفق المعنى المعاصر فى القرن الماضى، لاسيما فى الأرجنتين والحركة البيرونية، وفى البرتغال والأحزاب والجماعات الشعبوية لاسيما مع سالازار، وبعد ذلك مع بعض جماعات اليمين المتطرف فى أوروبا، لاسيما فى فرنسا، وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وغيرها.
المصطلح شعبوية، وشعبوى يحملُ تقييمات سلبية، ويصفه الخصوم بالازدراء، والابتذال والإدانة، والغوغائية السياسية، والمديح الناطق باسم مصالح الشعب/ الأمة، والنطق بها فى مواجهة المؤسسات والنخب الحاكمة.
التجارب البيرونية، والسالزارية الشعبوية السلطوية، كانت تشكل أحد مصادر مرجعية بعض النظم السياسية العربية السلطوية فى إطار حركات التحرر الوطنى العربية، والعالم ثالثية، لاسيما فى المشرق العربى والجزائر، ثم ليبيا مع العقيد معمر القذافى. فشلت بعض التجارب العربية الشعبوية السلطوية فى العراق وسوريا، ومصر مع صدمة هزيمة الخامس من يونيو 1967، وانكشاف بعض من الخلل الهيكلى فى هذه الأنظمة السياسية الشعبوية السلطوية، لأن قاعدة شرعيتها السياسية ارتكزت على التعبئة السياسية والاجتماعية، وتحالف الطبقات الاجتماعية– ، وسندها الفعلى كان الطبقة الوسطى، والسياسات الاجتماعية الداعمة لمصالح العمال والفلاحين والطبقة الوسطى- الصغيرة والوسطى - الوسطى.
أدت الصراعات، والنزاعات السياسية، إلي إضعاف الأنظمة الشعبوية السلطوية وقادتها وخطاباتها السياسية وذلك مع انفجار النزاعات الإقليمية وغزو العراق، وتمدد الشعبوية المذهبية فى الإقليم، من خلال بعض الأذرع الإقليمية والحوثيين، وحزب الله، والمقاومة الفلسطينية، ومن ثم إلى تأثرها السلبى مع حرب الإبادة الإسرائيلية، وضرب إيران، وهو ما سوف يؤثر سلبا على هذا النمط من الشعبويات المرتكزة على المذهبية الدينية السياسية فى المراحل القادمة.
من الملاحظ أن أنماط الشعبوية السلطوية التى سادت فى الأربعينيات، حتى السبعينيات مع الحركة البيرونية، تغيرت مع نمط الشعبويات اليمينية الأوروبية المتطرفة، والتى تهاجم النخب السياسية والمؤسسات السياسية الأوروبية بما فيها مؤسسات الاتحاد الأوروبي – فى فرنسا على سبيل المثال - من خلال توظيف مشاكل الهجرة، وعدم إندماج الأجيال الثانية والثالثة والرابعة من أبناء المهاجرين، والهجرة القسرية – فى ألمانيا -، والهجرة غير المشروعة، خاصة بعد فشل سياسات الاندماج الاجتماعى، وتمدد الأصولية الإسلامية المتطرفة، وسط أبناء الضواحى، فى فرنسا وبلجيكا، وعديد من الدول الأوروبية، خاصة فى ظل بعض ظواهر العنف الإرهابى، من الذئاب المنفردة، وانخراط بعض أبناء الجاليات الإسلامية فى القاعدة، ثم داعش والسلفيات الجهادية.
الشعبوية اليمينية المتطرفة، يتسم خطابها السياسى ببعض من العرقية والقومية إزاء الأقليات الإسلامية، والأفريقية..الخ.
الأحزاب السياسية اليمنية المتطرفة تمددت فى بعض الدول الأوروبية كفرنسا، بسبب أزمة القابلية للحكم crisis of governability في النظم الديمقراطية الليبرالية، والتى ظهرت مؤشراتها فى عقد السبعينيات، من القرن الماضى، وتفاقمت بسبب هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية علي الدول، والحكومات، من خلال الشركات الكونية الضخمة، لاسيما الرأسمالية الرقمية الفائقة الثراء، ومعها الشركات الكونية الأخرى فى مجال إنتاج السلع والخدمات. من ناحية أخرى تفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية بين الفرد والمجتمع والدولة، وتشظى العلاقات الاجتماعية على نحو أدى إلى عزلة الفرد، واستلابه فى عالم الاستهلاك المكثف، وأيضا إلى حالة المديونية الفردية لمواجهة الاستهلاك المتغير والمتسارع.
أدت الحياة الرقمية إلى بروز بعض الشعبوية الرقمية من خلال توظيف بعضهم لوسائل التواصل الاجتماعى فى نقد وهجاء والسخرية من الحكومات والأحزاب السياسية، ومؤسسات النظام الديمقراطى الليبرالى، والمطالبة بإحداث تغيرات فى بنية هذا النظام ليكون معبرًا عن المواطنين، لاسيما الطبقة العاملة، ومشاكل نظام الضمانات الاجتماعية والتأمينات والصحة، والاعتراض على رفع سن المعاشات والاعتراض على رفع أسعار البنزين، على نحو ما تم وحفز علي ظهور حركة السترات الصفراء، التى تم تعبئة المواطنين للخروج فى تظاهرات فى باريس، والمدن الفرنسية من خلال وسائل التواصل الاجتماعى.
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعى باتت تلعب دوراً بارزاً فى التعبئة السياسية للجموع الرقمية، والفعلية الغفيرة، ويجد الفرد فيها بعض من التعبير السياسى عن مواقفه وغضبه إزاء الحكومات وسياساتها، وتجاه بعض من رتابة المؤسسات السياسية للنظام الديمقراطى الليبرالى ونمطيتها وأدائها الشكلي والنمطي والاستعراضي.
لا شك أن النخبة السياسية ما بعد الحرب الباردة، باتت خاضعة للشركات والمصارف الكونية، وعلى رأسها الرأسمالية الرقمية الكونية الضخمة ، التى باتت تؤثر على هذه النخب السياسية الغربية، وسياساتها الاقتصادية، وقراراتها، وهو ما أثر على مفاهيم السيادة الاقتصادية، وهو ما بات يشكل أحد مصادر القلق الفردى، والجموع الغفيرة، خاصة أن التطورات التكنولوجية والرقمية، والذكاء الاصطناعى التوليدى، بات يشكل تهديدًا لفرص العمل، وتغييرا كبيرا فى أسواق العمل، وأيضا فى ارتفاع معدلات البطالة فى المقبل من السنوات – 50 مليون عامل سيخرجون من سوق العمل 2030، والمرجح وفق بعض الدراسات أن الذكاء الاصطناعى فى عام 2045 سيؤدى على نحو ساحق وظائف الذكاء البشرى! لا شك أن هذه المؤشرات، تشكل رهابُ الخوف فى المجتمعات الأكثر تطورًا فى عالمنا، للفرد والجموع الرقمية الغفيرة، فى ظل تطور الإناسة الروبوتية.
مع ولاية ترامب الثانية، وخطاب وسلوكه الشعبوى، وشعاره فلتعد أمريكا عظيمة ثانية، وسياساته، وتجاوزاته لبعض أسس النظام الليبرالى الديمقراطى الرئاسى، تجاه القضاء، وبعض حكام الولايات، واستبعاداته لعديد من الموظفين من المؤسسات الفيدرالية الأساسية، أشاع فى سياساته تجاه المؤسسات الأمريكية، قدراً من اللامبالاة بهذه المؤسسات، تحت دعاوى أمريكا أولا، ونزعته فى سياساته الخارجية إلى بعض من القومية العرقية، وإزاء الهجرة غير المشروعة، وتجاه دول العالم الأخرى، وتركيزه على تخفيض الضرائب.
هذا النمط الشعبوى للنيوليبرالية الإمبريالية الأمريكية، يساهم فى استمرارية الخطاب الشعبوى السلطوى فى الشرق الأوسط، ومناطق أخرى فى جنوب العالم، حيث اللامبالاة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان لصالح تحقيق الصفقات الضخمة لصالح الاقتصاد الأمريكى، فى مرحلة تتسم بالاضطراب، واللامبالاة بالقيم والمؤسسات الديمقراطية خارج الولايات المتحدة، ودعمه اللا محدود للسياسات الإسرائيلية فى المنطقة، ومعها حرب الإبادة تجاه قطاع غزة، وضرب المشروع النووى الإيراني، ومحاولة تسييد اتفاقيات أبراهام، لجعل إسرائيل القوة الإقليمية الأولى بعد ضربه المواقع النووية الثلاث في إيران.
------------------------
بقلم: د. نبيل عبدالفتاح
(نقلا عن الأهرام)