﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ [سورة البقرة: 235]
تجلّت هذه الآية الكريمة في سياق الأحكام الربانية التي نظّمت شؤون الأسرة والمجتمع، ووضعت المرأة في إطار من التوقير والرعاية، خصوصًا في فترات الحداد والعدة. وقد جاءت هذه الآية تحديدًا لتحسم مسألة إبرام عقد الزواج على المرأة المتوفى عنها زوجها، حمايةً لها من الاستغلال، وصيانةً لحقوقها، واحترامًا لظرفها النفسي والبيولوجي، ومراعاةً لما خفي من الحكم.
✦ أولًا: التفسير
نهى الله تعالى في هذه الآية المؤمنين عن المبادرة إلى عقد الزواج على المرأة المعتدة من وفاة، فقال:
﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي: لا تُقدموا على إبرام العقد الشرعي ولا تعزموا عليه، ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ أي حتى تكتمل مدة العدة التي فرضها الله. والمقصود بـ"الكتاب": هو ما كتب الله في شرعه من العدة، وهي في حالة الوفاة: أربعة أشهر وعشرة أيام كما ورد في الآية السابقة.
وقد صرّح بذلك المفسرون:
قال ابن كثير: "هذا نهي من الله تعالى عن تعجيل عقد النكاح قبل انقضاء العدة، وهي العدة التي كتبها الله على النساء".
وذكر القرطبي أن: "العزم على عقد النكاح يشمل الفعل والنية المؤكدة، والمراد به العقد الصريح لا التلميح، وهو منهي عنه في العدّة".
وأكّد الطبري أن: "الكتاب هنا هو عدة الوفاة، وقد جعلها الله فرضًا بكتابه وأجله لا يُستعجل ولا يُقصَّر".
فيجوز التعريض بالخطبة –كما جاء في الآية التي قبلها– لكن لا يجوز العقد حتى تمام العدة، وهذه قمة الانضباط التشريعي في أحلك الأحوال العاطفية والنفسية.
✦ ثانيًا: الإعجاز اللغوي
جاء النص القرآني محكمًا بليغًا في اختيار مفرداته وتركيبه:
استعمال الفعل "تعزموا" بدقة، دون "تنكحوا" أو "تُقدموا"، يحمل إيحاء الإرادة الجازمة الموصولة بالفعل، فهو نهي عن القصد المؤكد، لا مجرد الخاطر العابر.
عبارة "عقدة النكاح" فيها تصوير بليغ للعلاقة الزوجية على أنها رابطة مشدودة محكمة، تشبه العقدة التي لا تُحل إلا بإذن الله.
والتعبير بـ"حتى يبلغ الكتاب أجله" فيه وقار مهيب، فالعدة ليست مهلة شكلية، بل كتابٌ رباني له أجل لا يجوز تجاوزه، يوحي ذلك بـتمام السلطة التشريعية الإلهية وبسريانها المحكم في أدق التفاصيل الاجتماعية.
قال الزمخشري في الكشاف: "سُميت العدة كتابًا لأن الله كتبها على النساء فرضًا، وهي من الأمور التي لا تخضع لهوى ولا ميل، بل لتقدير رباني عادل".
✦ ثالثًا: الإعجاز العلمي
ما من حكمٍ شرعيٍ إلا وله جذوره في حكمة، قد تظهر أو تخفى، وقد جاءت الاكتشافات الطبية الحديثة لتُسلّط الضوء على بعض الأسرار البيولوجية المذهلة وراء فرض العدة، ومنها هذه الآية تحديدًا.
فقد بيّنت الأبحاث العلمية المتقدمة أن:
رحم المرأة يستقبل بصمة جينية من الحيوان المنوي، وهي شفرة وراثية من الرجل، تظل مستقرة في خلايا الرحم لمدة تقارب ثلاثة أشهر.
هذه البصمة تُعرف بـDNA microchimerism، وتؤثر على التركيب البيولوجي الدقيق للمرأة، بل تترك أثرًا يمكن اكتشافه عبر التحاليل الجزيئية.
وقد توصّل باحثون من جامعة "أريزونا" الأميركية عام 2012، ومراكز الطب الإنجابي في فرنسا وألمانيا، إلى أن تبدّل الشيفرة الذكورية داخل رحم المرأة في فترة قصيرة يؤدي إلى اضطراب مناعي وهرموني، ويؤثر سلبًا على فرص الحمل واستقرار الأنسجة الرحمية.
ومن هنا نفهم سر تشريع العدة بدقة، لأن الرحم لا يكون مستعدًا فسيولوجيًا لاستقبال "بصمة رجل آخر" إلا بعد مرور دورة تنظيف بيولوجي كامل، وهو ما يعادل ثلاث حيضات أو أربعة أشهر وعشرة أيام.
وهذا يفسر بعمق:
لماذا شددت الشريعة على العدة.
ولماذا لا يُبرم عقد الزواج – حتى ولو كان غير متبوع بدخول – إلا بعد استيفاء هذه الفترة.
سبحان الله! ما كان أحد يعلم بهذا في زمن التنزيل، ولكن العليم الخبير قدّر فقال:
﴿حتى يبلغ الكتاب أجله﴾، فجمع الطب والحكمة والتكريم في حرف واحد.
---
✦ الخلاصة
هذه الآية المباركة ليست مجرد حكم فقهي، بل هي تجلٍّ من تجليات التشريع الرباني المتكامل، يجمع في طياته:
الحماية النفسية للمرأة المعتدة،
الحفاظ على الأنساب والأعراض،
الانسجام التام مع البيولوجيا الحديثة،
والبلاغة التي تفيض هيبةً ووقارًا في خطاب التكليف.
وقد أثبتت الأيام أن الشريعة سبقت العلم، وأن الكلمة الإلهية لا تخبو، بل يكشف الزمن عن عُمقها ومجدها.
> ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا﴾
فسبحان العليم الحكيم.
-------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى
أستاذ التاريخ، باحث في قضايا الأمة