09 - 07 - 2025

سنترال رمسيس.. التشريح التقني لهشاشة العَصب الرقمي في مصر

سنترال رمسيس.. التشريح التقني لهشاشة العَصب الرقمي في مصر

عندما التهمت النيران طابقًا كاملًا في "سنترال رمسيس" ظهر السابع من يوليو، لم تكن تحرق أسلاكاً ومعدات وحسب، بل كانت تلتهم شريان الحياة الرقمية لمائة مليون مصري. فالدخان الأسود الذي تخَلّل غرف الخوادم كان أشبه بسمٍّ بطيء قضى على قدرة المصريين على الاتصال بالشرطة، أو سحب أموالهم، بل وحتى إنقاذ مرضى القلب العاجزين عن الوصول للإسعاف، والأرقام الرسمية تتحدث عن أربعة أرواح، لكن الحقيقة المريرة هي أن مصر كلها أصيبت بسكتة رقمية، والأرقام غير المرئية كانت أكثر قسوة؛ حيث حدث انهيار بنسبة 62% في سعة الإنترنت الدولي، وتوقف بنسبة 38% في الشبكة المحلية، وتعطل كامل لخطوط الطوارئ في 11 محافظة، وتعليق 3.2 مليون معاملة مالية. ولم تكن النيران وحدها هي القاتل، بل التصميم المركزي الهش الذي حوّل مبنى واحدًا إلى قنبلة موقوتة.

فداخل المبنى العملاق العقل الإلكتروني لمصر، فالسنترال المركزي كان أشبه بدماغٍ إلكتروني ضخم يحتوي على ثلاثة أقسام حيوية:

1.بوابة مصر إلى العالم

حيث توجد ثمانية شرايين رئيسية (كابلات بحرية) تنقل 24 مليون صورة في الثانية الواحدة من البحرين الأحمر والمتوسط، وأنظمة تصحيح التشوّهات تضبط إيقاع الإشارات بعد رحلتها عبر المحيطات، وجدران دفاع إلكترونية تحمي الشبكة من هجمات القرصنة العالمية

2. غرفة تحكم المكالمات

وهي محولات عملاقة (Juniper MX960) تدير نبضات اتصال الطوارئ (إشارات SS7/SIP)، وتدير دقات القلب المالي للبنوك، دوائر PRI)، وخريطة عناوين الإنترنت المصرية (15مليون عنوان).

3. القلعة المالية

حيث أنفاق مشفّرة (IPSec/SSL-VPN) تنقل الأموال مثل سيارات مصفحة، وأدمغة آلية تُصدق على 5000 معاملة مالية في الثانية، وخوادم RADIUS هي حراس البصمة الإلكترونية لأجهزة الصراف الآلي، ومن الحقائق الصادمة ان 7 من كل 10 معاملات إنترنت في مصر تمر عبر هذا المبنى.

ساعة الصفر - كيف تحوَّل الدخان إلى قاتل رقمي؟

بدأت الكارثة كشرارة خاطفة في لوحة كهرباء عتيقة، ثم تحولت خلال 8 دقائق إلى اختناق الألياف الضوئية، حيث جسيمات الدخان الخبيثة (أصغر 60 مرة من شعرة رأس الإنسان) خنقت مسارات الليزر، ومن ثمة حدثت سكتة قلبية للخوادم، حيث سقطت بطاريات الطوارئ (UPS) ميتة بعد 17 دقيقة فقط، وراحت بعدها المحولات في غيبوبة، وقد مُسحت ذاكرة الأجهزة الرئيسية (TCAM) كليًا.  

الخدمات تنهار تباعًا كما تسقط قطع الدومينو تباعًا، فخطوط الطوارئ توقفت تماماً لأن إشارات SS7 توقفت عن النبض، وأجهزة الصراف الآلي شلت حركة 89% منها بعد توقف خوادم المصادقة، وتعطلت 76% من معاملات تطبيق "إنستاباي" بسبب انهيار الأنفاق المشفرة.  

لماذا خانتنا أنظمة الحماية؟

يكون الوهم قاتلًا عندما نعتمد أنظمة احتياطية ورقية، فالوصلات الاحتياطية سعتها 40% فقط (كمثل أطواق نجاة تكفي لنصف الركاب)، ومراكز الطوارئ (DR) كانت أشباحًا بلا أرواح - بياناتها غير محدثة، والإطفاء الذاتي فشل كسيف مغلف بالصدأ منذ سنوات وسنوات في غمده

أما فوضى إدارة الأزمة فالمفارقة الصادمة أنه بينما كانت النيران تلتهم المبنى، كانت بيانات الضحايا متناقضة بين جهات رسمية، وغرف عمليات الاتصالات والطوارئ كأنها تعمل في جزر منعزلة تمامًا عن بعضها.  

الخروج من الرماد - كيف نمنع تكرار المأساة؟

هندسة المناعة الرقمية؛ فحين يكون الخلل في المركزية المفرطة يفرض علينا العلم العلاج بتوزيع العقد على محافظات أخرى مثل الإسكندرية والسويس، وحين تكون الوصلات الاحتياطية ضعيفة، يتحتم علينا رفع السعة إلى 100% بمسارات متعددة (ECMP)، وحين يكون التحويل بطيئًا فذلك يتطلب تفعيل أنظمة تبديل تلقائي فائقة السرعة

واستخدام أنظمة طوارئ ذكية ذات بطاريات دائمة التنفس (Vanadium Redox Flow) تعمل 8 ساعات، وأكياس عزل تحمي الألياف الضوئية كالخوذ الواقية، مع تطوير أنظمة مكافحة الحرائق، بتركيب أنظمة إطفاء ذكية تعمل تلقائيًا في المنشآت الحيوية، مع صيانة ربع سنوية إلزامية، وتحديث بروتوكولات التدخل السريع، مع تدريب فرق متخصصة على التعامل مع حرائق مراكز البيانات.  

والاستفادة من ثورة الإدارة العالمية في عقل إلكتروني (National SIEM) يجمع كل إنذارات مصر، مع اختبارات أو محاكمات دورية للشبكة (Chaos Engineering) تكشف نقاط الضعف قبل الكوارث

الخاتمة؛ دروس الدم والرماد

الكارثة لم تكن حادثًا عابرًا، بل صيحة إنذار أخيرة، حيث كشف حريق سنترال رمسيس عن ثغرات جوهرية في إدارة البنية التحتية الحرجة، ورغم سرعة احتواء التداعيات الجزئية، فإن ضعف التخطيط الوقائي وغياب اللامركزية في الخدمات الرقمية يظلان تهديدًا للأمن القومي، ولابد من تحويل هذه الكارثة إلى فرصة لبناء نظام رقابي متكامل، يجعل "التكرار" (Redundancy) و"استمرارية الأعمال" (Business continuity) ركيزتين أساسيتين في أي منشأة حيوية، بتفعيل الآتي:

  1. المرونة الرقمية ليست ترفًا، فكل جنيه يُنفق على أنظمة الاحتياطي يوفر 40 جنيهًا من الخسائر (دراسة معهد ماساتشوستس).  
  2. التكرار الحقيقي ليس نسخًا، والمسار الاحتياطي يجب أن يكون توأمًا حيًا للمسار الرئيسي.  
  3. المركزية قاتلة، فلا يجوز أن يكون مصير أمة رهينًا بمبنى واحد.  

والتوصية الأخيرة:  

"مصر التي بنت الأهرامات قادرة على بناء شبكة عصبية رقمية لا تقهر، ولكن ذلك يتطلب جرأة اقتلاع فلسفة 'القلب الواحد'، واستبدالها بجسد رقمي بلا نقطة فشل وحيدة، فالرماد الذي نراه اليوم ليس نهاية، بل تربة خصبة لميلاد مصر رقمية جديدة."
--------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش

مقالات اخرى للكاتب

سنترال رمسيس.. التشريح التقني لهشاشة العَصب الرقمي في مصر