09 - 07 - 2025

المبني للمجهول !!

المبني للمجهول !!

هو مجهول بغير شك ، ولا يمكن تعريف غير المعرف ، وإن كان يمكن دائماً الإستنباط والإستدلال والحدس ، وهي وسائل – بطبيعتها – غير يقينية وافتراضية وقد تؤدي إلي استنتاجات خاطئة .. إلي هذا الحد يبدو الكلام – كما أظن – منطقياً ومفهوماً ...

المشكلة هي في المعلوم المجهل، الواضح وضوح الشمس والذي لا تراه العيون، وهو معلوم بالضرورة ولكن يتم تجهيله إما بالعمد أو بالتقية أو بالجهل ، فهو بالعمد يمكن الإعماء عنه تضليلاً ، أو تشويهاً ، أو جبراً وقهراً ، وهو بالتقية تجاهل محسوب لتفادي ما يلزمه المعلوم من سلوك أو الإمتناع عن سلوك ، وهو بالجهل لا يعد معلوماً في الأساس ، لدي من عميت أبصارهم وبصائرهم ، أو تضاءلت وانعدمت حظوظهم من حدود المعرفة الدنيا ...

أنت تجهل ما بعد الموت ، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يعرفه تعريفاً جامعاً مانعاً ، ولكن يمكن من خلال النصوص المقدسة إستنباط بعض جوانبه ، وذلك بالطبع لا يمكن الإعتداد به بشكل علمي كتعريف ، فكل ما لا يمكن خضوعه لوسيلة أمبيريقية لا يمكن الإطمئنان إلي تعريفه المستند بشكل كامل إلي فرضيات نظرية يصعب أو يستحيل اختبارها ، فلم يعد أحد من الموت كي يحدثنا عنه ، ولم يصل العلم بعد إلي الوسائل التي تمكنه من ذلك ..

الفساد والتخلف وغيره من الظواهر المجتمعية ، معلوم بدرجات مختلفة لدي الكافة ، ولكنك تجد من يتعمد تجهيله بالحديث مثلاً عن الفساد في المطلق ، دون وضع الحروف فوق النقاط ، أو من يجهله بالتقية بحيث يسند المعلوم إلي مجهول ، كمن يشير إلي معاناة المجتمع من التخلف دون أن ينسب هذا التخلف إلي أسبابه ، وكأن التخلف صفة وراثية أو مرض لا يعرف أحد الفيروس المسبب له ، وهناك من يجهل هذا الفساد والتخلف بتشويه هذا المعلوم عن طريق إعتباره قضاءا ًإلهياً ينبغي التسليم به ، وعدم إرتكاب معصية بحث أسبابه وتداعياته ، ويتم تشويه المعلوم أيضاً بالحديث مثلاً عن إنتشار هذه الظواهر في العالم كله وأنها غير مختصة بهذا المجتمع علي وجه الخصوص ، وإذا فشلت كل وسائل التجهيل السابقة ، لمن له المصلحة في ذلك ، فأن أسلوب الجبر والقهر يبقي دائماً وسيلة إحتياطية جاهزة للإستخدام لنفي المعلوم ، ومن يدعي العلم معه ..

وفي الأغلب الأعم تجري عملية تجهيل المعلوم باستخدام التقية ، فهناك من يري الفساد والتخلف ولكنه يتحاشي مجرد الإشارة إليه حتي لا يتعرض إلي معلوم آخر لديه وهو القهر ، لذلك فهو يلجأ للرمز أو إسناد هذه الظواهر إلي المجهول ، كمن يعلم أن رجلاً بلطجياً في غرفة نومه يرقد فوق فراشه مع زوجته ، فيدعي أنه لا يسمع الأصوات الصادرة من حجرة النوم ، ويقنع الآخرين بأن زوجته خارج المنزل ، أو ينزع عن البلطجي سمة البلطجة ، أو يغادر المنزل فلا يري أو يسمع ، وهو في كل الأحوال يلعن الزنا والزناة ، ويدعو الله ليل نهار بأن يخرب بيوتهم ولا يقبل توبتهم ...

يعلمون الفتيات منذ نعومة أظافرهن إلا يفشين أسرار بيوتهن ، وأن يدارين علي الشمعة كي تضئ ، فإذا اشتكت واحدة من بربرية زوجها أو استعباده لها ، سارعوا بتجهيل ذلك المعلوم ، عمداً وتقية وجهلاً ، فعلي الزوجة طاعة زوجها ، وهي دائماً " أمينة " في الثلاثية الرائعة لنجيب محفوظ ، وهو " سي السيد " ، ثم أن مواجهة الزوج قد تؤدي إلي طلاق الفتاة وعودتها إلي منزل أسرتها ، لذلك تتقي الأسرة هذه النتيجة بالإنصياع إلي الوسيلة الأسهل وهو تجهيل المعلوم تقية ، فالزوج لم يكن علي هذه الدرجة من القسوة ، أو أن الفتاة دلوعة لا يعتد بشكواها ، وفي الأغلب الأعم والأغم لا تنصت الأسرة للفتاة وتأمرها بالعودة علي الفور إلي بيت زوجها وسيدها طائعة مقهورة ، رغم أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون ، ولكنه ذلك النوع من المعلوم الذي يضيفونه إلي المجهول ...

كان العالم كله يعلم توجهات هتلر التوسعية والوحشية منذ بداية ظهوره في الساحة السياسية الألمانية ، بل أنه لم يخف شيئاً ولم يترك شيئاً للمصادفة فقد وضع في كتابه الشهير " كفاحي " كل خطته بتفصيل واضح ، ومع ذلك هرول إليه قادة أوروبا متهالكين ليعقدوا معه صلح ميونيخ ، بل أنهم أغمضوا عيونهم ، عن معلوم إلتهامه للنمسا وتشيكوسلوفاكيا ، عمداً وتقية ، ودفعت البشرية كلها ثمناً باهظاً نتيجة لذلك التجهيل لمعلوم واضح وضوح الشمس منذ اللحظة الأولي ، ولو تمت مواجهته مبكراً لربما تغير وجه التاريخ ...

وقد لا يكفي هذا المقال أو حتي كتاب لسرد أمثلة تؤكد هذه الحقيقة ، التي هي معلوم آخر لدي الكافة يتم تجهيلها ، ولعل العديد من السادة القراء يتذكرون الأخ دونالد رامسفيلد وزير الدفاع في إدارة بوش الصغير ، حين قال بحكمة : " هناك أشياء نعرف أننا نعرفها ، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها ، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها ، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها" ... أنه استخدام جيد للبيان كوسيلة لتجهيل المعلوم ، فلا شك أن ما حدث في سجن " أبو غريب" مثلاً معروف ومعرف ومحدد بشكل نافي للجهل أو للتجهيل ، ولكن الإدارة الأمريكية عمدت أولاً إلي نفي ذلك ، ثم ثانياً إلي إسناد ذلك إلي سلوك غير مقبول من حفنة بسيطة من الجنود ، ثم خرج علينا السيد رامسفيلد بتلك الشبكة العنكبوتية من تعريف المعرفة ، بينما المعلوم الذي تم تجهيله بشكل منهجي هو أن تلك كانت سياسة الإدارة سواء في أبو غريب أو في جوانتانمو أو غيرها ...

الجبر والقهر يدفع الناس للتقية ، وآية التقية هي التمويه علي المعلوم ، وأسلوبه المضمون هو استخدام المبني للمجهول ، فلقد مات القتيل وتعفنت الجثة ولكن القاتل " المعلوم " مجهول ، لقد خرب الزرع والضرع وفسدت الذمم ، ولكن ذلك ليس منسوباً لأسماء الفاعلين ، وإنما لذلك المجهول المعلوم ، أو المعلوم الذي يتم تجهيله ...

والمعلوم قطعاً من التاريخ البشري يؤكد بما لا يدع مجال للشك أن المجتمعات تبدأ أول خطواتها في التقدم حين تكسر قشرة الجهل والتجهيل عن المعلوم ، حين تعرف أنها تمتلك إرادة الفعل والتغيير ، إلا أنه حتي هذا المعلوم التاريخي يتم التمويه عليه عمداً ، بالتضليل والتشويه أو بالجبر والقهر من أصحاب المصلحة في ذلك ، أو بالتقية من أولئك الذين يغضون الطرف عن تزوير وتشويه هذا المعلوم التاريخي الثابت ، ويكون الجاهلون ضحية الطرفين ...

لقد كان أهل مكة من المشركين يتوهمون أنهم يعبدون الله ، أي أنهم كانوا يعلمون بوجوده استنباطاً واستدلالاً يصل إلي حد اليقين ، ولكنهم مع ذلك تصدوا بقسوة وعنف مع ذلك المعلوم ، وآثروا التجهيل عليه ، وقد واجههم القرآن والرسول وأصحابه بالإصرار علي إبراز هذا المعلوم والتأكيد عليه ، وليس باستخدام منهج التقية والبناء للمجهول ، لذلك انتصرت الرسالة المحمدية في النهاية ...

وربما يتساءل القارئ العزيز عن الهدف من كتابة هذا المقال ، وأتصور أن الإجابة لن تختلف عن إجابة رامسفيلد : " هناك أشياء نعرف أننا نعرفها ، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها ، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها ، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها " ... مع إضافة قدر كبير من الإجابة للمبني للمجهول ...
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

المبني للمجهول !!