تبنى المجتمعات وتتقدم الدول وتتكون الحضارات على أرضية قيمية وأخلاقية قبل الأديان فى إطار العرف الذى يرشد ويحافظ على تلك القيم، حتى ظهرت القوانين التى وضعت العرف موضع الالتزام القانونى الذى يجب أن يساوى بين البشر عند تطبيقه على الجميع بلا استثناء. كما أن الأديان قد أعطت تلك القيم العرفية والقانونية بعدا دينيا وروحيا من المفترض أن يكون هذا البعد الدينى حافزا للالتزام الطوعى بتلك القيم قبل الالتزام القانونى.
وهذا البعد الدينى لاشك أن المؤثر الأول فى تكوينه العملى هو ذلك الفكر الدينى الذى يجب أن يعمق ويؤكد هذه القيم وتلك السلوكيات. فإذا كان هناك تربية صحيحة لفكر دينى صحيح، كان هناك التزام حقيقى بالقانون الذى لا يتناقض أساسا مع المقاصد العليا للأديان. ولكن واه من ولكن هذه . نجد الآن ذلك التناقض البين بين ذلك التدين الشكلى والمبالغ فيه من الجميع وبين السلوك الاجتماعى وعلى كل المستويات. ذلك التناقض الذى تزداد فيه أشكال وأساليب دينية بلا حدود فى مقابل انفلات بلا حدود أيضا لممارسات تتناقض كل التناقض مع القيم والأخلاقيات الدينية. فنرى الآن ممارسات وسلوكيات فجة تمارس وتدافع وتبرر عملية الغش وكأن الغش هذا هو سلوك قويم وممارسة دينية واجبة!! هنا إذا كان هناك حالة تدين ظاهرة وهناك قانون (وما أكثر قوانيننا) فما السبب فى تلك الظاهرة الحقيرة؟ لاشك أنه عندما تزداد العلاقة بين الغشاش والمرتشي والحرامى وبين أجهزة الدولة، هنا نجد وجود حصانة مصنوعة لهذا المنحرف وكأنه هو الممثل الدولة!! فعندما يقول السادات فى السبعينيات لرشاد عثمان الحرامى ومستورد الفراخ الفاسدة للشعب المصرى (خلى بالك من اسكندرية يا رشاد)!! ألا تعتبر هذه شرعية للفساد والغش؟ عندما تعلم الأجهزة جهارا نهارا بتلك المبالغ التى تقدم رشوة للالتحاق بالنيابة العامة وكليات الشرطة ولتبوُّء المناصب المرموقة تصل الآن إلى ملايين الجنيهات، وكأن كل الامور طبيعية بل وكأنها قانونية !!!
عندما تعلم وزارة التعليم ويعلم الجميع أن هناك لجانا مخصوصة لامتحان الثانوية لأبناء الكبار، نعم الكبار لكى يتم الغش العلنى والفاضح. أليس هذا تبريرا وتمريرا وتأكيدا للغش؟ هنا نجد من الطبيعى أن نشاهد طالبا يعلن على الهواء إدانته للمراقبين الذين لم يسهلوا لهم الغش!! نشاهد ذلك المشهد الحقير لسيدة ولية أمر تلميذ تعتدى على مدرسة لأنها لم تغشش ابنها! الأغرب أن هذا الاعتداء تم فى وجود الأمن! والأكثر غرابة أن السيدة (المحجبة) أي المفترض أنها ملتزمة بقيم الدين (إذا لم يكن مظهرا فقط ) تسب المدرسة المختلفة معها فى الدين سبا عنصريا لا يليق بمصر والمصريين إطلاقا. الأمثلة كثيرة ومريبة وخطيرة، الأخطر هو أننا قد استمرأنا الغش والسرقة والرشوة ...إلخ.
قيل إن المدرسة تنازلت عن حقها وتصالحت!! وهذا غير جائز لأن القضية ليست قضية المدرسة. هى قضية أخلاق وقيم ومجتمع وقانون ودولة، فهل هذا يعنى أن نقول (كفى المؤمنين شر القتال)؟ هل هذا الصمت وكأن شيئا لم يحدث قد حل وقضى على الغش؟ إذا كان التدين أصبح شكليا ويتم المتاجرة به هنا وهناك. فليفعل القانون على الجميع بلا استثناء ليس فى مثل هذه الكارثة (اعتداء وسب وقذف وإساءة للدين) ولكن فى كل المجالات حتى تستقيم أمور الوطن. فخطورة الغش ياسادة هى أن الغشاش الذى أخذ حقا ليس حقه لا يمكن أن تكون لديه أى قيمة أخلاقية يحافظ عليها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والأهم هل سيكون حاضرنا ومستقبلنا فى أيد غشت منذ البداية. فأى مستقبل هذا ونحن فى أشد اللحظات خطورة على الوطن. القيم لا تجزأ والقانون هو الحل والمواطنة الحقيقية هى حق لكل مصري، لكى يأخذ حقه بلا تفرقة، فنكون على بداية طريق المستقبل الذى ينتظره الوطن.
حمى الله مصر وشعبها العظيم المتمسك بالقيم وغير الغشاش.
-------------------------
بقلم: جمال أسعد