06 - 07 - 2025

(البلطجي والشبيح)

(البلطجي والشبيح)

لا مندوحة عن الاعتراف بأن شخصين لا ثالث لهما يحكمان العالم هذه الأيام: أحدهما في بلاد رعاة البقر والآخر في الشرق الأوسط الجديد المزعوم. ما يحدث في منطقتنا العربية حالياً من بلطجة عسكرية وسياسية وإعلامية واستهانة بالمقدسات والشعوب والحكومات والأنظمة من قبل حكومة يمينية متطرفة، لا تسعى سوى للتمدد الاستعماري والسيطرة المطلقة على الأجواء المجاورة يُذكرني بفترة الحرب الباردة، عندما كان العرب يستعينون بالأسلحة القادمة من الاتحاد السوفيتي السابق لردع أعدائهم، وكانت الإمبراطورية السوفييتية تمثل درعاً سياسياً ودبلوماسياً واقياً في معظم الأحيان يدافع عن القضايا العربية. لذلك فقد كان سقوط الاتحاد السوفيتي أكبر كارثة حلت على المنطقة العربية، وللأسف شاركت بعض الدول العربية بقوة في إسقاط وتفتيت الاتحاد السوفيتي، حيث ساهمت بقناطير الذهب والفضة وملايين الدولارات، علاوة على إرسال المتطوعين الإسلامويين الاستشهاديين للقتال ضد السوفييت في أفغانستان. 

لا أريد أن أسمع أحد الموتورين يتحدث عن الديكتاتورية السوفييتية، فأمريكا حالياً تمارس أقذر أنواع الديكتاتورية في التاريخ، حيث تعتقل الطلبة الذين يعبرون سلمياً عن تعاطفهم مع الأطفال الفلسطينيين الأبرياء في غزة، الذين يذبحون على مدار الساعة بأسلحة وقنابل أمريكية وتحرم جامعاتهم من المعونات البحثية بما في ذلك جامعة هارفارد أهم جامعة في العالم، وتسن القوانين التي تحمي مجرمي الحرب الصهاينة الإرهابيين مثل الوزير المتطرف (بن حمير) وتصدر أحكاماً مفضوحة ضد من ينتقدون هؤلاء السفاحين الساديين، أنجس ما أنجبت البشرية لدرجة إصدار أحكام هزلية ضد المحكمة الجنائية الدولية واتهامها بمعاداة السامية، وهي تهمة وقحة وسخيفة سئمت البشرية من تكرارها حتى كبار المفكرين اليهود أنفسهم مثل الفيلسوف نورمان فنكلشتاين الذي دافع عن الشعب الفلسطيني وهاجم بشدة كل الصهاينة الذين يتاجرون بالهولوكوست ومعادة السامية.

في ثمانينيات القرن المنصرم وبعد غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، استعانت الحكومة الأمريكية بباكستان وبعض الدول العربية للقيام بحرب بالوكالة عنها ضد السوفييت  من خلال تجنيد آلاف الشباب من كافة الدول العربية (الأفغان العرب) وتم مدهم بالسلاح والمال بتمويل عربي معروف، وكان على رأس تلك المليشيات ما عرف لاحقاً باسم تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن. استخدمت أمريكا فزاعة (المد الشيوعي) القادم إلى المنطقة العربية في حالة انتصار السوفييت في الحرب، مما يهدد المسلمين وشريعتهم الغراء لأن السوفييت كفار ولذلك يجب إيقاف المد الشيوعي بأي طريقة، ولكن الهدف الحقيقي كان تمزيق الاتحاد السوفييتي واستنزافه في حرب دينية بلا نهاية، تدمر اقتصاد البلاد وتؤدي لانهيار الإمبراطورية. آنذاك كانت صور أسامة بن لادن على أغلفة المجلات الأمريكية، وفي الصفحات الأولى من الجرائد باعتباره (جيفارا العرب) فهو ومن معه يقاتلون (إمبراطورية الشر) حسب قول الرئيس ريجان في سبيل تحقيق الحلم الأفغاني الإسلامي الديمقراطي. 

من المثير للسخرية أن الحرب في أفغانستان قد انتهت بهزيمة السوفييت وكسبت أمريكا الرهان، وبدلاً من وصول المد الشيوعي إلى الدول العربية عادت إليها أفواج من المقاتلين الإسلامويين المتطرفين الذين تحولوا إلى تنظيمات متشددة مثل (تنظيم القاعدة- العائدون من أفغانستان- الناجون من النار- الأفغان العرب- التكفير والهجرة وهلم جرا) زعزعت الاستقرار السياسي في بعض الدول العربية، خاصة في مصر والجزائر ودولة بترولية كبرى. هؤلاء أصبحوا أعداء أمريكا الجدد لاحقاً بعد انتهاء شهر العسل في أفغانستان، وبعدما كانوا يقاتلون (إمبراطورية الشر) بالنيابة عن أمريكا اعتبرتهم الحكومة الأمريكية لاحقا محوراً جديداً للشر. ولا ضير من هذا التحول فالسياسة نجاسة. 

في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي وهدم سور برلين وبزوغ فجر العولمة وسيطرة القطب الواحد على العالم، عاش الناس في أوهام لا حدود لها عن التعايش السلمي والديمقراطية والرخاء والاستقرار وتبادل المنافع، بعدما تحول العالم إلى قرية صغيرة وبقية هذه الأفلام الأمريكية المستهلكة. في أعقاب ذلك فوجئ الناس بموجات الغلاء ونوعيات جديدة من الحروب التجارية وإصرار الدول الغربية على تحويل دول الشرق والجنوب لأسواق ومتاجر لبيع سلعها، وصدر كتاب صموئيل هنتنجتون (صراع الحضارات) الذي دعا الساسة الأمريكان لتدمير الدين الإسلامي والدول الإسلامية والصين، لأنهم يشكلون خطراً داهماً على إمبراطورية الكاوبوي أحادية القطب، وكذلك صدر كتاب فرانسيس فوكوياما (نهاية العالم والإنسان الأخير) الذي اعتبر فيه أن إمبراطورية رعاة البقر ذات القطب الواحد تشكل قمة ما وصلت له البشرية من تقدم على كافة الأصعدة: الأخلاقية والديمقراطية والسياسية والاقتصادية إلخ. وطالب بتعميم التجربة الأمريكية في جميع المجالات على دول العالم قاطبة. 

الآن وبعد مرور أكثر من 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفيتي لا توجد دولة أخرى ذات ثقل يمكنها الوقوف دبلوماسياً بجانب القضايا العربية في مجلس الأمن، ولا توجد دولة تستطيع تصدير السلاح إلى الدول العربية بدون الحصول على موافقة (البلطجي والشبيح). الآن يمتلك (الشبيح) أحدث الأسلحة الفتاكة ويعلم (البلطجي) عدد الرصاصات لدى جيوش معظم الدول العربية، لأنه وأنصاره وشركاؤه الأوروبيون هم المصدر الوحيد لتصدير السلاح. 

البلطجي والشبيح لن يسمحان لأي دولة عربية بامتلاك السلاح الذي يضمن لها الدفاع عن شعبها ومصالحها، فهما يريدن استسلاما كاملاً من جميع دول المنطقة لتتحقق نبوءة أشعياء ويسيطر الكيان على الأراضي الممتدة من النيل للفرات. البلطجي تاجر ونخاس لا يخجل مما يفعل ويسهل شراؤه بالمال ولا يهمه سوى السيطرة والابتزاز، وهو لن يتخلى أبداً عن الشبيح بسبب الضغوط التي يتعرض لها من اللوبي الصهيوني ومن أكثر من 70 مليون من مؤيديه يشكلون ما يسمى بالحزام الإنجيلي الذي يمتد في معظم ولايات الجنوب الأمريكي، وهؤلاء يؤمنون بأساطير تلمودية وتوراتية تشي بضرورة تسريع عودة المسيح للأرض المقدسة، مما يتطلب إبادة جميع الفلسطينيين أو تهجيرهم وتجميع يهود الأرض فيها، وهذا هو شرط عودة المسيح ليقيم العدل إلخ. هذه الرؤية الاستعمارية العنصرية التي تشترط إقامة دولة فصل عنصري يسكنها اليهود فقط لم تخطر على بال أشد الصهاينة تطرفاً، حتى أن ثيودور هرتزل نفسه في كتابه (الأرض القديمة الجديدة) تحدث عن رغبته في إقامة دولة يوتوبيا (مدينة فاضلة) في فلسطين يعيش فيها الفلسطينيون واليهود والأتراك - دولة تستقطب العلماء والباحثين والمفكرين من جميع أرجاء العالم – دولة تقيم طرقاً بحرية وبرية تربط آسيا مع إفريقيا وأوروبا من أجل تحقيق الرخاء للجميع. 

إذن كل كلام العرب عن التعايش والسلام في الوقت الراهن لن يرضي طموحات البلطجي والشبيح، لأن مشروع الشرق الأوسط الجديد قد خرج من الأدراج وهو قادم لا محالة. الآن وفي غياب أي قوة أخرى عظمى تردع الكاوبوي وأصدقاءه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم يتبق أمام العرب سوى حلين لا ثالث لهما: إما الإذعان لكل ما يطلبه البلطجي والشبيح من تنازلات سياسية واقتصادية وعسكرية والتي تضمن سيادة الكيان وسيطرته المطلقة على مقدرات المنطقة وشعوبها وحاضرها ومستقبلها، أو مواجهة (البلطجي والشبيح) وجنودهما مما سيؤدي إلى نشأة الشرق الأوسط الجديد جداً بعد تفكيك دول المنطقة وتحويلها لدويلات صغيرة يحكمها ملوك الطوائف مثلما حدث في الأندلس في سالف الدهر. 

طالبت أوقاتكم.
-----------------------
بقلم:
 د. صديق جوهر
* أكاديمي وناقد

مقالات اخرى للكاتب

(البلطجي والشبيح)