"ليس كل من ينصحك يريد بك خيرًا، فخطيئة آدم كانت نصيحة إبليس".
عبارة مرّت أمامي كلمح البرق. بدا ظاهرها مألوفًا، لكنّ باطنها كان يطرق بابًا عميقًا في العقل والضمير. ومن هنا بدأت القصة. قصة بحث عن طبيعة الإنسان في زمن السرعة، والضجيج، والقلق... زمن اختلطت فيه النصيحة بالخديعة، والإخلاص بالتسويق، والنية الطيبة بالنية المُدبّرة.
في هذا المقال، نبحر في خريطة معقّدة: من أول خدعة تعرّض لها الإنسان في الجنة، إلى آخر صيحات التنمية البشرية في العالم الرقمي. من إبليس إلى المؤثرين على إنستغرام. ومن الخوف من الموت إلى شهوة الخلود. بينهما خيوط لا تنقطع… وتقاطعات لا تخطؤها عين.
المشهد الأول: أول من قدّم "النصيحة"
المكان: الجنة. الشخصيتان: آدم وزوجه، والناصح: إبليس. العبارة: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟".
كان يمكن لإبليس أن يأمر، لكنه اختار أن "ينصح". واختار ألفاظًا تبدو مشجعة، مطمئنة، بل محبة. وهنا كانت الخدعة الكبرى. الشر، حين يُقدّم في هيئة النصح، يفقد دفاعك من أول وهلة.
سألني صديق ذات مرة: "هل تعتقد أن إبليس كاذب؟" قلت: "لا… ليس دائمًا. أحيانًا يقول نصف الحقيقة… وهو أدهى من الكذب الكامل."
ومنذ ذلك اليوم، لم نعد نتعامل مع النصيحة بذات البراءة. أصبح السؤال: من؟ ولماذا؟ وليس فقط: ماذا قال؟
المشهد الثاني: الإنسان المعاصر وسط العاصفة
في عام 2023، نشرت جامعة ستانفورد دراسة حول تزايد معدلات القلق والاكتئاب بين فئة الشباب من عمر 16 إلى 29 عامًا. المفارقة أن هؤلاء هم الأكثر اتصالًا بالعالم، والأكثر تعرضًا لـ"النصح" من كل الجهات: مؤثرين، مدربي تنمية بشرية، حسابات توعية، حملات تسويقية، تطبيقات مراقبة المزاج.
أين المشكلة؟
يقول عالم الاجتماع زيجمونت بومان: "نحن نعيش في حداثة سائلة. لا شيء فيها ثابت: لا العلاقات، ولا الأفكار، ولا حتى القيم."
الإنسان في القرن الواحد والعشرين لا ينقصه المعلومة، بل الثبات. لا يفتقد النصيحة، بل الصدق. ولا يشتكي من الضوضاء، بل من غياب البوصلة.
المشهد الثالث: حين تصبح الطمأنينة سلعة
صفحة على إنستجرام تقول لك: "أنت كافٍ كما أنت". لكن بعدها مباشرة تروّج لمنتج يغيّر شكلك… ثم تعود لتخبرك أن الثقة بالنفس لا تُشترى.
نصيحة؟ ربما. خديعة؟ غالبًا.
الإنسان المعاصر، كما وصفه عالم النفس إريك فروم، يريد أن يُقاد. ليس لأنه ضعيف، بل لأن الحرية دون يقين مخيفة. وهنا تحديدًا، يتسلل من يدّعي النصح. يعرف ما يؤلمك، ويعزف عليه. يعرف ما تخاف منه، ويقدّم لك مخرجًا. لكن السؤال الحقيقي: إلى أين يأخذك؟
المشهد الرابع: حين اختلطت النوايا بالمصالح
في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له رجل: "اتقِ الله يا عمر"، فقال عمر: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها."
لكن عمر لم يكن يسير خلف كل ناصح. كان يزن الكلمة بميزان النية، ويزن النية بميزان الشريعة. وقد قال يومًا: "لست بخب، ولا الخب يخدعني".
هذا هو الفارق الجوهري. الفرق بين من ينصحك لله، ومن ينصحك ليتسلّق بك. بين من يوجّهك لتكون حرًّا، ومن يوجّهك لتبقى تابعًا.
المشهد الخامس: الخروج من المتاهة – الرجوع إلى الأصل
وسط هذا الضجيج، هل من مخرج؟ نعم.
الإسلام لم يتركنا في المتاهة. العقيدة الصافية تقدم مفتاحًا لا يُبلى:
- "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب" [الرعد: 28]
ليست النصيحة هي التي تمنح الطمأنينة، بل الذكر. ليست الجملة الرنانة، بل الوحي الثابت. ليست طاقة المؤثر، بل نور الإيمان.
قال الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها." فما صلح به أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، لا يزال مفتاحًا لصلاحنا. كانوا يُنصحون، لكنهم يعرفون ميزان النصيحة.
النهاية: لحظة صدق مع النفس
عزيزي القارئ… في المرة القادمة حين يقول لك أحدهم: "أنا فقط أريد مصلحتك"، لا تنظر إلى ابتسامته، بل إلى اتجاه إصبعه. إلى أين يشير؟ إلى الجنة؟ أم إلى الشجرة؟
في عالم يبيع لك الطمأنينة بالتقسيط، لا تأمن إلا لمن يقودك إلى الله.
عبارة ختامية:
"زن كل نصيحة بميزان الشريعة، لا بوزن الكلمات. فالنية لا تُرى… لكنها تُكشف حين تُعرض على نور الحق."
--------------------------
بقلم: محمد عبدالحميد