خرجَ الفاروقُ عمرُ بنُ الخطاب يوما إلى السوق، يتفقدُ أحوالَ الرعية، فإذا به يُبصرُ إبلا سمانا، وبجوارها نوقٌ هزيلة (جِلد على عظم)، فسأل لمن هذه الإبلُ السمان؟ فأخبروه بأنها إبلُ ابنه عبد الله ابن عمر، فاستدعاه وسأله عن مصدرها فأجابه بأنّها إبلُه اشتراها من حُرِّ ماله، وأرسلها إلى المرعى لتسأم وترعى، مثلما يفعل بقيةُ الناس، فعنّفه عمرُ قائلا: وإذا رآها الناس يقولون: ارعوا إبلَ ابن أمير المؤمنين، واسقوا إبلَ ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلُك ويربو مالك، على حساب الرعية، ثم انتفض عمرُ غاضبا، وقال لابنه: بع الإبل وخذ رأس مالك، ورد الربح لبيت مال المسلمين .
قصةٌ معروفة، تصوّرُ مدى ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وحرصه على مال المسلمين، باعتباره ملكية عامة لا ينبغى لأحد استغلالها لمصلحته الشخصية، مهما كانت سلطته ونفوذه .
ورغم أنّ هذه القَصص ومن قبلها النصوصُ القرآنية، والأحاديثُ النّبوية، تلقى قداسة من المسلمين، إلا أنّها قداسةٌ نظرية يندر تطبيقُها على أرض الواقع، لحدٍّ يُمكن القولُ معه بأنّه: صار النّاسُ فى واد، وتلك النصوص فى وادٍ آخر، أو أضحتْ آذانهم معها (أذن من طين، والأخرى من عجين)، وهذا ما تؤكده حوادثُ الرشوة، التي نسمع عنها يوما تلو آخر ، والتي تشعرك بأنّ مال الدولة مال (سايب)، وهذا ما تدمع له العين دما، ويكشف عن جهلَ الناس بفداحة هذا الجرم؛ لأنّ حرمةَ الاعتداء على المال العام، أشدُّ من حرمة الاعتداء على المال الخاص، وهو ما يتطلب وقفة حاسمة من ذوي القرار، بالضرب على يد كلّ من يعيث في الأرض فسادا، ويستولي على ما لايحقّ له .
إننا بدولة حباها الله بمقومات كثيرة، أسهمت فى عبقريتها، وتميّزها على مرّ العصور، وعلى كثير من الشعوب والأمم، حيث شيّد المصريون حضارة كانت ومازالت مثار إعجاب العالم أجمع، وجاءت - للأسف - الأجيالُ اللاحقة، وبدم بارد تهدم ما بناه الآباء !
وذلك بسلوكيات ذميمة طفتْ على السطح وعكّرت نبع مصرنا الصافى .
على رأس تلك السلوكيات، وبلا شك، تأتي الرشوة، التى حرّمتها آياتٌ وأحاديثُ كثيرة؛ لأنها تُفسدُ الأخلاق وتؤصل لنظرية النفعية، التي يرفع أصحابُها شعار (أنا ومن بعدي الطوفان)، كما أنّها تقطع رباط المحبة بين الأفراد، وتُسوّد المفضول مع وجود الفاضل، فضلا عن أنّها تُرسخ للشعور باليأس والقنوط عند المهضومين مهيضي الجناح، بعدما يرون ضياع حقوقهم، واستيلاء من لهم (ظهر) عليها .
إنّ الرشوة - يا سادة - جريمةٌ نكراء، تذهبُ معها الأخلاقُ أدراج الرياح، وتؤصل للفوضي وقوانين الغابة، التي ينهش فيها القوي لحم الضعيف .
أقول، وما دام الأمرُّ كذلك، فلابد أن تواجه الدولة هذه الآفة بكلّ صرامة، وذلك بتغليظ العقوبة، وتفعيل الرقابة اللصيقة على كلّ مسؤول بالدولة، مع عدم بقاء أصحاب المناصب وثيقة الصلة بالتعاملات المالية فى أماكنهم فترات طويلة؛ لنُفوّت عليهم فرصة التربح من مناصبهم، وليكون أيُّ مسؤول على يقين بأنّه موظفٌ في الدولة، وليس ملِكا متوجا، ورث السلطة والمنصب كابرا عن كابر .
وأخيرا أقول: إننا فى مصرنا الجديدة، نحتاجُ إلى تضافر الجهود وبذل العرق، ومحاربة الفساد بكلّ أشكاله، واليقين بأنّ نهضتنا رهنُ الإيمان بالهدف، والعمل على تحقيقه، وإن لم نفعل ذلك وفورا، ستظل رغبتنا في التطور والتنمية مجرد أضغاث أحلام ..
فأفيقوا يرحمكم الله !
-------------------------------------
بقلم: صبري الموجي
ـ مدير تحرير الأهرام